علي وجيه
لعلّ واحدةً من أسباب التعب العراقي، أنّ هذا البلد لم يشهد البناء، ولم يشهد الهدم، وهنا أعني البناء التام والهدم التام، أن يشعر هذا الشعب بأنّ لا شيء ينقصه، أو بأن أسباب الحياة انتهت بالنسبة إليه، ظلّت البلاد متأرجحة بين هذين، والمفارقة أنها تتأرجح بهذا الشكل في تاريخها المعاصر كلّه، فلم تكن اللوحة العراقية بيضاء تماماً، ولا سوداء تماماً.
ثمّة منقذ أزليّ، بالأقل في القرن الماضي وصولاً ليومنا هذا، اسمه: النفط، وهذا النفط سبب الهدم الجزئيّ المستمر، الذي يزداد وينخفض في كلّ شيء، وسبب البناء النسبي والتنقلات بين عناصر الرفاهية والأمن والاستقرار، وبالإمكان الانتباه للنفط هنا ليس بوصفه الوقود، بل وحتى الموقع الجغرافي، أو التجاذبات الإقليمية.
لكن العلّة الأساسية علّة مجتمعية، تنتج طبقةً سياسية تتأرجح مع كل شيء، فضلاً عن العناصر المساعدة الخارجية، فهناك بلدان عديدة، كلّ شيء يتعاضد ضدها، ومع “إيجابية” العنصر الاجتماعي، في تعاون سكّان البلد مع بعضهم البعض، والحرص على جوانب أخرى أخلاقية وتنظيمية، تبدو هذه العناصر مُخفّفةً كثيراً، والتحديات أبسط.
لم يرتطم العراقيون بـجرح نرجسيّ، وصدمة تصيب الجماعة، لأن لا وجود لجماعة عامة، ثمّة جماعات كبيرة ومتناحرة، وهذا الأمر الذي جعل من حلبجة “جريمة ضد الكرد”، وسبايكر “جريمة ضد الشيعة”، ومذابح الخسفة والبو نمر “جرائم ضد السنة”، لحظة هيروشيما المرّة جمعت اليابانيين، والحرب الأمريكية – الفيتنامية جمعت كلّ آلهة الرّز لتقف مع هذا الشعب، انطلاقاً من كونه شعباً واحداً، وجعلت الهوية الوطنية بشكلٍ عام الهند بلداً واحداً، بعد تاريخ مرعب من الحروب الأهلية، في بلد الألف ديانة.
دوماً ما كان هناك شيءٌ يوقف الهدم التام، ومع غياب البناء التام، ليس أمامنا إلاّ التعامل مع النفط بوصفه غير موجود بالمرّة، بطريقةٍ ما هذه الكارثة في أسعار النفط ستؤدي إلى منطقة تفكير جماعية جديدة، رغم أن عناصرها الحالية ضعيفة، لكن اللحظة الصفرية آتية لا ريب، وهذه المرة ربما بلا مُنقذ.
لا يحتاج العراقيون إلاّ لصدمة أكبر، وكأنني أراها من لحظتنا هذه، مشاعر جديدة وتفكير جديد يشبه لحظة احتجاجات تشرين، التي تعيش فصولها الأخيرة، لكن ما تحت الرماد جمراً، ومَن أخرج هؤلاء الشباب، من أسباب عديدة، ستكثر مجدداً، ويخرجون مجدداً.
هذه الصدمة التي ننتظرها، سيتعاون معها المنقذ/ الجلاد الذي نعرفه: النفط. وجيل جديد تربّى خارج حاضنة الجماعة، ليكون جماعة جديدة، من شأنها التغيير، أو بالأقل: رجّ الراكد من الوضع السياسي، ودفع هذه الطبقة إلى الامتثال لأمرها، والذي سيدفع العراق إلى التحوّلات الأخرى، ربما أحلم في هذه اللحظة كثيراً، لكن الانعطافات التي مرّ بها العراق في القرن الأخير، كانت مساحة الحلم فيها أوسع من مساحة التحليل السياسي.
التغيير والصدمة لها ثمنها بعد أن أثبت النظام السياسي هذا أن لا سبيل لأيّ بناء تراكمي فيه، أو سبيل آخر لإصلاحه من الداخل، نحن أمام عملية سياسية منخورة، مليئة بالأخطاء البنيوية الداخلية، ولن ينفع سوى تصفيرها، وتصفير العراق من منقذه: النفط، إن كان إجباراً بالأزمات المتعلقة بأسعاره، أو تطوّر العالم وتجاوز الوقود الكلاسيكي كما تؤكد غالبية المصادر الاقتصادية، أو العمل باتجاه وضع جديد، يمكن أن يجعل للعراق عدّة منقذين، بتنويع مصادر الدخل، وهذا لا يأتي إلاّ بجماعة جديدة، ستتربى بعيداً عن العقائد الكلاسيكية والتواريخ المزيّفة للسياسة العراقية، جماعة تؤمن أن لا مشكلة لها مع الآخر، كما ظلّوا بلا مشاكل لأشهر في التحرير، دون أن يهتم الشاب للذي بقربه.
إنني أحلم، أحببتُ أن أحلم، في بلادٍ – كما أشرتُ – مفتوحة على الحلم أكثر من التحليل السياسي!