طالب عبد العزيز
لا أبالغُ والله، إذا قلتُ بأنَّ حبَّ الطبيعة وكراهية الحرب ركنان أساسيان في حياتي، هكذا، مثل هندي أحمر، أفاقَ فوجدَ الكثير من مفردات حياته قد سلب منه. معلوم أنَّ الهندي الاحمر يرى في العزلة معبده الحقيقي، فهو لا يبني بيوتاً لأحدٍ من آلهته، لأنه بلا آلهة مسماة، ومعينة. آلهته أكبر من أنْ توضع في حيّز وتحيطها جدران، والطبيعة بما فيها معبده، لذا فهو لا يتحدث في المسائل العميقة، طالما أنّه يؤمن بها. هو يرى بأنَّ الطعام جيد لكنَّ التخمة قاتلة، وأنَّ الحبَّ حسنٌ لكنّ الشهوة مدمرة. ولأنه كذلك فقد حفظ روحه حرّةً، من قيد الكبرياء، والجشع، والحسد، ونفَّذَ بقينٍ كبيرٍ المرسومَ الإلاهيَّ، كما آمن به بعمق، كأمرٍ هامٍّ بالنسبة له.
في روح الفلّاح بعامة والبصري بخاصة شيءٌ من الروح تلك، ولأنَّني فلاحٌ بالفطرة فقد هَّدني التعب ذات يوم، تعبٌ لا أعرفُ أسبابه، فما كنت حارثاُ ولا غارساً ولا حاصداً، هو شعور ما بالتعب والضجر، لذا، اِتخذت من جذع نخلة متكأ لجسدي، في شبه قيلولة، أرقب السيّدَ (أبو منذر) وهو يحرثُ ويشذبُ ويسقي في قطعة الأرض الصغيرة، خاصتي. ومن مجلسي القريب منه، كنتُ أصغي لنداء الهنديِّ الأحمر في روحي وهو يقول: “في اللحظة الجليلة لشروق الشمس أو في غروبها أشغل موقعي، أطلُّ على الأمجاد الأرضية، مواجها السرَّ العظيم، وقد مكثتُ هناك عارياً، منتصباً، ساكناً، وبلا حراك، متعرضا للعناصر، لليلتين ويومين”. لا أعرف، كيف اندمجت صورة (أبو منذر) بصورة الرجل الأحمر ذاك، وتشكلت عندي صورةٌ واحدةٌ، لحبِّ الطبيعة، وكراهية الحرب، وطريقة العبادة، وعشق الحياة.
يقول أبو منذر: أنا، ومنذ تقاعدت، عرضت عليَّ أشغالٌ كثيرة، لكنني لم أختر واحدة، أردت أنْ أكون فلاحاً، مثل أبي وجدي. ثم وجدته يريدُ إسماعي أكثر فيصحح: مثل آبائي وأجدادي، أنا، أحبُّ الأرض، حتى وهي لا تمنحني ما أريده من مال، أعرفُ مهناً تدرُّ أموالاً أكثر، في “الصناعية” مثلاً، وفي الشركات الأجنبية، وفي حدائق الميسورين.. لكنني، أحبُّ الأرض، أحبُّ أنْ أجني مما أزرعه وأسقيه، التراب والماء والاشجار والشمس والمطر.. عناصر لا أشعر معها بالغربة، وأعيبُ على المتقاعدين جلوسهم على الطرقات، قرب محال البقالة، وفي المقاهي. ومن زاويتي، تحت الجذع الرطب، كنت ألمُّ شتاتَ الصوّر، في ما أسمع وأشاهد وأقرأ. كان أبو منذر يرسم في رأسي صورةَ الهنديّ الأحمر، الذي رأى المعجزات، في كلّ يدٍ تعمل، معجزة الحياة في البذرة والبيضة، معجزة الموت في ومض البرق، أو في الغابة العميقة.
ذات يوم، جاءني بعُقل لشجرة دفلى بيضاء، قال: لم أر في بستانك إلا الأحمرَ والورديّ منه، كان يعي تماماً معنى الأبيضَ إزاء الاحمر والوردي، وقبل ذلك، حمل لي على دراجته الهوائية فسيلاً نادراً، سألني ما إذا أودُّ أنْ أغرسه قرب النهر أم في مكان آخر، ومثل من يحمل وليداً، قال: باسم الله، وعلى بركة الله، زرعنا والزارع الله، للطير وما سهّل الله. يا الله. وأنبته في الموضع الذي اِحتفره له. أيّ نشيد سماويٍّ هذا، هو يزرع ولا يمانع إن أكله الطيرُ منه. كان الهندي الأحمر يرى في الحيوانات كلها إخوةً لهُ، في الكون، ولهم الحق في الحياة مثلما له، وكان يسلم نفسه للسكون الذي تهدهده تنهداتُ الاشجار، وشدو الطيور المبتعدة، وخرير المياه، كانت الاصوات هذه توغل في روحه نبْضاً سامياً.
أبو منذر، سيّدٌ هاشميٌّ، من سلالة محمد النبي، وهو من أسرة عمل كثيرٌ منهم في الدين والسياسة والحكومة، وله أقرباء في السلطة، يمكّنونه من إشغال وظائف مميزة، وقد عرضوا عليه بعضَها، لكنه رفض، ورفض أكثر منذ لك، أراد أن يعبد ربه في فسحة من الطبيعة، تحت النخل، وبين السواقي، بعيداً عن دور العبادة، التي بناها الإنسانُ لغاياته المعروفة. أراد أنْ يبقى هندياً أحمرَ، بدشداشة بيضاء، وغترةً وإنْ كانت زرقاء أو سوداء.. يعتني بالحيوانات والأشجار وبالموجودات من حوله، ويصغي عميقاً لنداء المخلوقات من حوله. أمّا أنا فقد رحت أسجدُ في الموضع الذي تساقط فيه حبّاتُ عرقه، رافعاً كفيَّ الى السماء قائلا: اللهم، تقبل من جسدي هذا القربان، هذه الصلاة.