أسبريسو…قصة افتراضية عن بهزاد وموشيه
علي وجيه
يُروى في الأثر، أنَّ كلب صيد عدا خلف غزال، قال الغزال: لن تلحقَني، قال الكلبُ: ولِمَ ذاك؟ قال: لأنّكَ تعدو لصاحبك، وأنا أعدو لنفسي.
ثمّة فرقٌ أساسيّ بين شعبين وحكومتين تتقاتلان، إن أهملنا بشكلٍ جزئيّ كلّ المتعلقات والمُلابسات في هذه المواجهة المصيريّة.
لنفترض أنّ في مكانٍ ما من إيران، شيخاً يبلغُ السبعين، اسمُهُ: بهزاد، وفي مكانٍ ما من الأرض المحتلّة، شيخاً يبلغ السبعين، اسمه موشيه.
بهزاد يستيقظ صباحاً، يعرفُ تماماً فطوره، هو بالغالب شايٌ خفيف تعوّد الفرسُ على شربه منذ قرون، وجبن وجوز، على الحائط: صورة لإمام شيعيّ، وعلى الرف “غزليات حافظ”، ومن النافذة ينسكب صوت غناء بمقام الدشت، بينما صور العائلة تعتقُ تدريجياً، من آخر سيلفي لحفيدته، مروراً لصور أبيها، وصوره هو، ثمّ صور أبيه، وجدّه، وإن كان ذا سعةٍ في اليد، فستكون على الحائط منمنمة فارسيّة عمرها قرنٌ ونصف.
سجّادته قديمة، يتكئُ على تشيّعٍ وقوميّة، وبلاد شاسعة، تشهدُ أحياناً لفرط كبرها فصلين أو ثلاثة من فصول السنة، وهذا الرجلُ مدبِّر، مثله مثل أيّ فارسيّ، يكتفي من الطعام ببسيطه، ومن الملابس بعاديِّها، وهذه أرضه، إن كان فوق رأسه شاهٌ، أو عمامة، يمينيّة أو إصلاحيّة، ستبقى صينية السينات السبعة بنوروز نفسها، والرحلة إلى المدن الساحرة نفسها.
يستيقظ موشيه، المطلّ على شارعٍ فيه عددٌ مختلف من المطاعم، الفلافلُ الشاميّة، الصفائح والمناقيش بالزعتر والجبنة، لكن ثمّة مَن يبيع الكرواسون والاسبريسو لليهود ذوي الأصول الفرنسيّة، أو البطاطا المهروسة مع حساء البصل لذوي الأصول البولنديّة، وهكذا.
العبريّة التي يتحدثُ بها، لغة أقلّ من المحلّية، لكنه يتحدثُ بالغالب لغتين، لغة مع أهل بيته، ولغة مع مُحيطه، لا ذكريات أكثر من الحرب والقصف والخوف من الهجمات التي تأتي من وراء السور، بعد جيلٍ واحد، لن يجمعه مع زقاقه غير الهولو.كوست، أغانيهم مختلفة، شعراؤهم مختلفون، وهذه الأرض مخيفة، لا تثبتُ تحت أقدامهم، وهي موعودة بسبب بيتٍ مجانيّ، وراتب يبلغ نحو ٢٠٠٠ دولار، وفي لحظة الصاروخ، أو هجمات السكاكين، سيحنّ القلب إلى أمان تلك الأرض الأولى، لا يجمعه شيء مع اليهوديّ اليمنيّ، ولا اليهوديّ العراقيّ، ولا المصريّ، ولهذا فإن غناءهم غناءُ جاليات وحنين، عن لحظة غادروا بها البلاد إلى هذه الأرض.
بهزاد له من الهويّات ما تجمعه لتصنع ذاته “الفارسيّة” بالنهاية، فالتشيّع محرك إضافيّ له، والقومية، والتأريخ، هو يحبّ كورش وعليّاً والحسين (عليهما السلام) وسواهما، لا تتنافرُ هذه الهويّات، بل تذوبُ بشكلٍ ساحر لتشكّل ملامحه وملامح أبنائه في النهاية، إن كانوا من أتباع ولاية الفقيه، أو الإصلاحيين، أو حتى إن كانوا من متمردي جامعة طهران.
أحفاد موشيه لا مؤشّر على هويّتهم سوى الدين، الأقلّوي، الذي ينزعجُ منه الجميع ويزعجُ الجميع، لا يستطيع أن يقول أحدٌ منهم في بثّ مباشر “أنا من اسر!ئيل” دون أن يتلقّى انتقاداً، وما تربّوا عليه في تراثهم من مظلومية، شاهدوه في غرْة على يد جيشهم.
إن قُصفتْ طهران، لبهزاد مليار ونصف خيار للهروب هو وأسرته، لبقعةٍ تتحدثُ نفس لغته، إن هرب لإيلام، أو سيستان وبلوشستان، أو مشهد، أو الأهواز، بينما لا يجدُ موشيه وأبناؤه وأحفاده مهرباً من هذه البلاد، الصغيرة، التي أين ما قصفتَ فيها سيسمعُ نصف الكيـ.ان صوت الصاروخ الكبير.
بهزاد، تعوّد على الاقتصاد، نصف رغيف سنكَك وقطعة جبن وشاي خفيف، بما يعادل أقل من ٣٠ سنتاً، ويُحاصر من قبل كل العالم، لا يستطيع السفر إلاّ للحج أو لمراقد الأئمة في بغداد، لكن بالمحصّلة: كل شيء متوفر، وهادئ، لكن الذي يرى نفسه قلبَ العالم، ومدللـهُ، وأفضل بشرٍ فيه كما يقولُ لهم تلمودهم، ثمّ يتعرّض لجروحٍ نرجسيّة متتالية، من مسلّحين على دراجات ناريّة، وصولاً لاختراق القبّة، لن تعودَ هذه الأرض “وطناً”.
إن كان موتاكَ في مقابر شتّى، فأنتَ بلا وطن، إن لم تتحدث مع الجميع أو أغلب سكّان بلادكَ بنفس اللغة، فأنتَ بلا وطن، هذا ما يمتلكه بهزاد، ولا يمتلكهُ موشيه.
يقول عبد الوهاب المسيري “في كلّ حركة التأريخ، لم تُثنَ الوسادة لمحتلّ على أرضٍ إلاّ بعد تصفيته لكل السكّان الأصليين، مثل معادلة الولايات المتحدة الأمريكية والهنود الحمر”، لكن على أحفاد موشيه التعامل مع سلسلة جروح متتالية: السكّان الأصليين، ثمّ أصدقائهم في بلدان ثانية، ثمّ بهزاد وأحفاده الذين يفطرون قطعة جبن وجوز، ثمّ يرصعون سماء موشيه بالصواريخ ليلاً.
تعليقات 0