طالب عبد العزيز
إذا أردتَ أن ترى البصرة على حقيقتها فاذهب لترَ واحداً من أجمل معالمها، ألا وهو شط العرب في الليل، هذا الشريانُ الممتد طولياً معها الى البحر، هو قلبها المائي بالنسغ الصاعد والنازل مرتين في اليوم والليلة، وإن أردتَ أنْ تضاعف معرفتك بالناس أكثر أذهب الى هناك. الناس في المدينة هذه يعيدون خلق لحظاتهم عنده بعفوية كبيرة، حتى لتبدو كما لو أنَّ بينهم من خطط ورسم واعتنى وأخرج. ناس بألفة لا تصدّق، ولديهم القدرة على قبولك دون معرفة، وتستطيع أنْ تنتظم في أي مجموعة دون أن تعرَّف بنفسك، وإن كانت تلك خصيصة اجتماعية عراقية بامتياز، لكنها بصرية خالصة، تتجلى صورتها في كرنفالات الفرح، والمناسبات السعيدة أكثر.
بُعْيدَ كلِّ مغيبٍ للشمس، ودونما شعور بالملل ترى البصريين يتوافدون على الكورنيش، وسواءٌ لديهم أكانت درجة الحرارة مرتفعة أو منخفضة، فالأمر سيّان، هناك صوتٌ يأتي من ضفتين لا بدَّ من تلبيته. الصيادون على الجسر، موثقين مباهجهم الى النهايات الحديدية لدعاماته، ومُصغين لنداء سمكة تداعب الطعم بصنارة، والمارة يحييون بعضهم، والعابرون الى مركز المدينة هم العائدون منها، وما القوارب الراسية عند صدور نهر الخورة ببعيدة عن مثيلاتها التي عند صدور نهر العشار، فالماء واحد وجامع، وإن حال الجسر الإيطالي بينهما، فالموج يتعبأ بالحجر، ويستغور ثناياه، والحجر ضالة الاسر البصرية، التي تتوافد اليه كلَّ مساء، في رحلة لا تتجاوز الساعتين والثلاث، إذْ أنَّ وجبة الطعام وابريق الشاي وكيس الكرزات تنفد سريعةً، لا بدَّ أنْ تنفد، ليحلَّ ليل ثانٍ، ويأفل قمرٌ وتنأى نوارسُ، ولتخلد الى عقاربها الساعات الأخيرة.
تحت إغواء عارم كهذا وبالتعاون مع وزارة الشباب والرياضة أقامت لجنة الموروث الملاحي العراقية استعراضها الأول وبالقوارب والابلام والمشاحيف التي تم صنعها في مناطق مختلفة من البصرة، ضمن سعي اللجنة في إعادة الروح للملاحة النهرية، وتقديمها بوصفها رمزاً محلياً، يشكل مع رموز أخرَ هوية المدينة، التي عرفت عبر التاريخ بأنها مدينة الـ عشرة آلاف نهر ونهر. هل يمكن لنا أن نصفَ الجهد العملي والفني الذي بذلته اللجنة، ورئيسها الفنان رشاد نزار سليم، وهل نعرِّف به لنقول: إنَّه نجل الكاتب والفنان والمترجم نزار سليم، شقيق الفنان الكبير جواد سليم لنعرِّف بحجم الفعل، ودوافعه وما يترتب عليه في تقديم الصورة المثالية للمدينة.
ترك الدكتور مشتاق عيدان، كاتب السير وأستاذ التاريخ سيارته التي اقلتنا ليس بعيداً عن حدائق مدينة هبي لاند، حيث يقام الاستعراض وسرنا، حافّين بتمثال الشاعر بدر شاكر السياب. كان المساءُ جمعةً، والحديقة مغلقةٌ للأسر والأطفال، والموسيقى تصدح في أركانها، والطاولات جاهزة لمن يريد أن يقيم حفلاً لعيد ميلاده. العرسان الجدد، والذين ينتظرون زفافهم، والمتزوجون توّاً، والمولدون حديثاً وسواهم، من الذين لم يجدوا بأساً بالعيش قرب الماء وعلى المقاعد والطاولات التي تشرفُ على النهر، كلهم جاؤوا، ارتدوا أجمل الثياب، وتعطروا بالماء الورد والنعناع والقرنفل، أفرغوا على أجسادهم زجاجات العطر كلها وجاءوا. كان الكرنفال مختلفاً، فقد امتلأت القوارب التي علتها الفوانيس بالرجال، والنساء والأطفال، وسارت بهم في الشط الحبيب، أمّا النسائمُ الباردة المحمولة على الماء فقد كانت تمرُّ على الوجوه، هازئةً بالصيف والريح الرطبة، لكأنها تقول لهم: خذوني قبل أنْ … هل صدحت الموسيقى بالناس؟ نعم، وهل كان النهر طيباً، أيما والله، وهل تهادت القواربُ بعضها القبلَ والعناقات؟ أجل، كذلك فعلت.
لم تكتف لجنة الموروث الملاحي بهذه، هي بانتظار يومٍ آخرَ تجتمع فيه وسائط النقل النهري العراقية كلها، تلك التي بنتها اللجنة في مدن أخر، ليس آخرها بغداد والموصل وسامراء وعانة والديوانية والناصرية والعمارة، وسيكون الشط العرب على موعد مع استعراض أكبر، في مسيرة نهرية كبرى تتقدمها السفينة الأم(المهيلة)التي أسس لها وبناها مع ما أسس وبنى النوخذة الشاب أسعد سلمان، بطولها وعرضها الاستثنائيين، وما ذلك اليوم ببعيد.