قبل نحو من نصف قرن من وجودنا في شرقنا العربي ونحن نسمع مقولة (أمريكا عدوّة الشعوب) والكلمة تتحقق يوماً إثر آخر، ثم أضيف لها (أنَّها مسؤولةٌ عن أمن إسرائيل) لكنَّ الحكومات العربية لا تريد أنْ تصدّق ذلك، بل وما زالت تتصور وتعتقد بأنَّ في التبعية لها هذه يكمن السلام، وتعمر البلاد، ويأمن العباد، وأمريكا في كل مرة تؤكد العكس من ذلك كله، وتزيد من وسيلة البطش وتصرّح بأنَّها صانعة الإرهاب، والمهيمنة على اقتصاديات العالم. الشعوب الحرّة والحكومات الوطنية تدرك ذلك وتقارعه، وتعمل على الخلاص من هيمنها، إلا حكوماتنا العربية، المستسلمة، والعميلة، والخانعة فقد رهنت مصائر شعوبها بأمريكا، وراهنت ومازالت تراهن على أنَّ الخلاص ممكن منها ولو بعد حين.
لم تتعرض أمتنا العربية والإسلامية الى الذل والمهانة والمسكنة في السابق بالقدر الذي تعرضت له بعد الربيع العربي، وكلنا يتحسس مرارة جملة كهذه! لكنها الحقيقة وهي تضطرنا الى مراجعة أحوالنا قبل وبعد ذلك. نعم، كانت الأنظمة الدكتاتورية عاجزة، وهي في أقوى أحوالها ليست أكثر من نمور ورقية، ولا نقول بمساهمتها في جرِّ المنطقة وشعوبها الى ما هي عليه اليوم، أبداً، إنْ لم تكن هي من أرادت ذلك، بحكم استبدادها، وكنتيجة منطقية لتفردها في السلطة ومن ثم لقهرها شعوبها، واعتقال أو قتل الوطنيين منهم، وهذا مآل كل سياسة هوجاء، لا ترى أبعد من مصالحها الضيقة، لكنْ، من الانصاف بشيء أنَّ ماكينتها الإعلامية كانت تضخُّ بعروقنا روح الوطنية والقومية والدين مع يقيننا بأنّها غير قادرة على فعل شيء.
مؤلم أنْ يتحول الوطن من أمثولة وطنية الى انتيكة. يلاحظ اختفاء مفردة الوطن لصالح مفردات الدين والطائفة والقبيلة والحزب والجماعة المسلحة…. في تتبعنا الى ما كان ينشده الشعراء من قصائد في حبِّ الوطن، عبر منظومة السلطة الدكتاتورية يمكننا تلمُسَ ما يعني- وإنْ كان على مضض- بوجود وطن، ووطنية، وأمّة، وقوة، ومنعة، واستقلال.. لكننا صرنا نفتقد المفردات تلك، نفتقد الوهم ذاك!! (لقد ضاع الوطن بتعبير سعدي يوسف) وهبْ أننا أردنا أنْ نستلَّ رمزاً واحداً لا غير، فمن نسمّي؟ ومن يخطر على بالنا من عشرات الأسماء، التي تناوبت الفساد والخنوع والذيلية والخيانة والعمالة؟ تعمل البروبوغاندا أحيانا على ردم هوّة ما في النفس الإنسانية من تخسّفات، إذْ، هناك دائماً ضعف انسانيٍّ بحاجة الى مَنْ ينفخ فيه روح القوة، مثلما هناك شعور مضمر بالوطنية يتخلل الأنفس الصادقة، المخلصة، المتحرقة الى الحرية، هو شعور لا ينبغي أنْ يتركَ خامداً، وهو يبحث عمن يحركه، قد لا يفعل شيئاً ذا بال، لكنه يخلق معادلاً موضوعياً عند الانسان.
ما يحدثُ في غزةَ وجنوب لبنان والضاحية أكبر من فجيعة، أقسى من أنْ يتحمله ضمير انساني، ومع افتقادنا لأيِّ محرِّك وطني، قومي أو ديني، بل، ولأيِّ شعور يستنهض فينا ما تخلف بأرواحنا من جذوات وصبوات الحرية والاستقلال ومقارعة العدو، بل صرنا نفتش في صحفنا القديمة وقصائد أقراننا عن نمورنا الورقية، التي كانت تسليتنا ذات يوم، علها تفعل ما وعدتنا به، إذْ يصعب علينا الوقوف والصبر على ملاقاة الهوان بهذا اللاشيئ. علينا البحث عمن يأخذ بأيدينا الى الخلاص من دائرة أمريكا، مع يقيننا بأنَّ “القوم في السر ليس القوم في العلن” لكنْ، ماذا نفعل، هي أمنيات ليست إلّا.