طالب عبد العزيز
مع أنني أحتفظُ برأيٍّ مختلف عن الموسيقى والأغنية العراقية، ولا أسمّي أعوام السبعينات بالفترة الذهبية، كما يحلو لكثيرين، وأرى أنَّ الذوق العراقيّ تردَّى بهيمنة الأغنية الريفية على الأغنية البغدادية، عقب هجرة الموسيقيين اليهود، والمطرب فلفل كورجي، بخاصّة، ثم موت ناظم الغزالي، وزهور حسين، وعزوف رعيل الملحنين الأول عن تلحين الأغاني للمطربات البغداديات، اللواتي كبرنَّ، وذهبت نضارة أجسادهن، وانشغالهم (الملحنين) بمغنيات الريف الصغيرات، اللواتي دخلن الإذاعة تواً، الأمر الذي رافق هجرة ملايين الفلاحين من ريف الجنوب الى بغداد، والذين حمل الشباب منهم أجهزة التسجيل على أكتافهم، وصاروا يستمعون الى أغانيهم التي خلفوها هناك وتبعتهم الى البيت الجديد، ومن ثم استقرت في السوق، والمقهى، واحتلت الشارع، وزحفت الى قلب بغداد، يصاحب ذلك الأوضاع السياسية الدامية التي سادت آنذاك، وكلها اسباب عجّلت بانحراف الذوق العام وخروج الأغنية المدينية، الحضرية من المشهد، وهي ما تزال بنت نشأتها الاولى أو الثانية.
في “للريل وحمد” الفيلم الجميل، والوثيقة الأهم، الذي أعده وأخرجه د. محمد غازي الاخرس نفاجأ بحديث الملحن محمد جواد أموري عن الأغنية البغدادية، التي يصفها بالساذجة، فهو يقول بأنني قلت لإبراهيم الزبيدي (أين هي الأغنية البغدادية؟ ثم يورد أبيات من العامية يقول بأنها لأغنية بغدادية (بالدرب لمن صادفتني/ واكف ويمّي جماعة/ تسوي نفسك ما شفتني/ ومرْ عليَّ بغير ساعة) دون أن يذكر غناء ناظم الغزالي للقصيدة الفصحى، والمقام، واختيار الكلمات العامية الاجمل مثل “ريحة الورد ولون العنبر”، “يم العيون السود” أو لما قامت به مائدة نزهت في (أم الفستان الأحمر) (كلما أمر على الدرب) هذا الصوت الملائكي، أو كيف أنَّ عفيفة اسكندر كانت تعرض كلمات أغانيها الفصيحة على العلامة مصطفى جواد لتقويم لغتها؟ والأنكى من ذلك قول (الهاشمي) للزبيدي: مو زين دنطوّر أغانيكم؟ ترى ماذا يقول اموري عن تلحينه لأغنية “الهدل” لياس خضر؟ أو (أنت وين وآني وين / شكد فرق بين الاثنين).
والغريب أيضاً قول الباحث عادل الهاشمي، الذي يصف المطربين الذين ظهروا في سبعينات القرن الماضي بأنهم بناة ثقافة جديدة! هو الذي يسمي الأغنية الريفية بأغنية البيئة، والتي عندما ظهرت نسي الناس الأغنية البغدادية بحسب رأيه! كلام غريب، هل كانت أغاني حمدية صالح، وريم، وبنات الريف، وعبادي العماري، وسلمان المنكوب وحميد العمى، وابوتنكة، وجعفوري، وحسين سعيده، والعشرات ممن ضجت بهم الشوارع والأسواق وساهمت بتلويث الذائقة البغدادية، المدينية، والحضرية هي البديل لما أسسه محمد القبنجي والغزالي وسليمة مراد ومائدة نزهت؟ في البارت قبل الأخير يتنبه الباحث الأخرس انتباهة ذكية الى ما قاله الهاشمي وأموري، فيتحدث عن الأغنية التي تبناها اليسار العراقي، و لو أنه أتى بحديثه على بعض أغاني رضا علي وفاروق هلال مثلاً، وليته قال شيئاً عن الاغنية في البصرة، وأغاني الخشابة، وأوبريتات فرقة الطريق، التي غنت للحب والحياة وكانت بمثابة الدعائم لما كان يتهاوى من الذائقة في بغداد.
هل كانت أغاني حمدية صالح، وريم، وبنات الريف، وعبادي العماري، وسلمان المنكوب وحميد العمى، وابوتنكة، وجعفوري، وحسين سعيده، والعشرات ممن ضجت بهم الشوارع والأسواق وساهمت بتلويث الذائقة البغدادية، المدينية، والحضرية هي البديل لما أسسه محمد القبنجي والغزالي وسليمة مراد ومائدة نزهت؟
وفي العودة الى رأي الهاشمي (موزين دنطوّر أغانيكم) ترى هل تدخل نوائح ياس خضر ضمن آلية التطوير تلك؟ شخصياً، ومقارنة بما أتحفنا به من غناء لكثير من مطربي لبنان ومصر ودمشق واليمن والخليج لا أجد إلا القليل من الغناء العراقي، ولولا مخافة أنّ يغضب منا بعض الاصدقاء لقلنا الكثير بحق حسين نعمة وسعدون جابر ورضا الخياط ورياض أحمد وغيرهم أيضاً. أما لو أجرينا مسحاً موسيقياً وغنائياً لمجمل ما أنتج في فترة السبعينات وحتى منتصف الثمانينات (العصر الذهبي عند البعض) لما وقفنا إلا على بضعة أصوات، وجملة أغانٍ، لا يمكننا التواصل معها طويلاً. لا أسمعُ غناءً عراقياً، لأنَّ الغناء يعني الطرب، الذي هو خلاف النواح، والانسان بعامة بحاجة الى الغناء، لتخفيف عبء الحياة عليه، أما النواح فيجده في المآتم، إذْ لم تستطع الأغنية العراقية السبعينية بخاصة انتشال الانسان العراقي مما وضع فيه، ووقع عليه، بل زادته قهراً وذلّا ومهانةً. أعتقد بأنَّ موسيقى طالب القر غولي وأموري ومحسن فرحان وغيرهم كانت ستخلد طويلاً لو أنّها ركّبت على كلام غير (الهدل، ومرينه بيكم حمد، وتايبين، وروحي لا تكله شبيج، وعزاز ، وياحريمه)..