عن الأشياء التي تتهدم من حولنا 

 أذكرُ، أنني كنتُ قد استبدلتُ بابَ البيت القديم، بآخر جديد، وهو بحسب ظني فعلٌ مما يفعله العامة والخاصة، لا يقلل من شأن وجودنا فيه، بالمعنى الحقيقي للوجود، وهذا مما يقوم به كثيرون من حولنا في العالم، ومثله يحدثُ في تغيير ستارة النافذة التي تراجع لونها بأخرى أجمل وأنصع، وتجديد طلاء السياج، وزحزحة أصص الزهور التي على السلم، وهذه أفعال لا تحدث خللاً في توازنات الحائط والباب والاريكية والانسان في المنظور القريب، ويمكننا ان نتحدث عن عشرات الاشياء، التي تشكّل الجانب المنسي والمتحرك، أو المُغفل عنه في حياتنا، وسط سعينا اليومي، وذوباننا الدامي، في تحقيق وتأمين الخبز والحليب واللحم والخضار، مادة الحياة الفعلية.

  من فتحةٍ في النافذة أطلُّ على النهر الصغير، الذي يوشك يندرس، بسبب  إهمال دائرة الريّ له، وعبث الجيران بضفتيه، النهر هذا، الذي تشكل ضمن المخيال الاول، وخبرتُ أصغر أحجاره وأطيانه، وعبر معاينتي الطويلة له، صرت أعرف أشكال وألوان الطيور التي تقصده كل يوم، والتي كانت تحطُّ على أشجاره في النهار وتقيم في قصبه وأشناته، أو التي تغادره كلَّ طلوع للشمس، وأعرف أيضاً مواسم نموِّ وذبول الورد الدفلى التي على ضفتيه، وأعرف مواعيد المدِّ والجزر أيضاً، هذه الالفة التي تجاوز زمنها نصف قرن، هي مما لا أستطيع مبارحته، وأشعر بأنَّ أيَّ تغيير واستبدال فيها يهدم مقاماً مقدساً في روحي. يعتقد البعضُ بأنَّ قطع قصبةٍ في نهر بعشرات الآلاف من عيدان القصب فعلاً عابراً، وهو مما يفعله كثيرون، ذلك لأنه لا يتحسسُ غربة العصفور الذي اعتاد الوقوف عليها.

  دون أن أشير عليهم بشيء، أبدل أولادي كرسيّ الكتابة، الذي مضى على وجوده هنا في غرفة مكتبي ربع قرن، كنتُ قد أصلحتُ قوائمه، التي تفككت، وكذلك مسانده، التي لم تعد تصلح متكأً ليدي، كما كانت من قبل، وهناك صوت تُصدره اللوالبُ الحديدية، التي تمسك أجزاءَهُ، لكنني، الفتُه، ولم أشكُ أحدَهم منه، فأنا أقضي الساعات الطوال من كلِّ يوم جالساً، مستمتعاً برائحة الخشب، وأشهدُ أنَّ مقعده الجلد ما زال بليونته، التي كان عليها، لم تنل السنوات منه شيئاً، لكنهم جاؤوني بكرسي فخم جديد، تتزلحق قوائمه على عجلات أربع، وكلُّ ما فيه مريح وجميل، كان عليَّ أنْ اشكرهم، وقد فعلت. لكنهم، ساعة أخرجوا كرسيي القديم أحسست بأنَّ جزءاً من كياني خرج معه، لم يذهبوا به الى مخزن الادوات القديمة، إنما القوا به على طريق مروري اليومي الى ومن البستان، حيث اتفقد أشجاري، مرة في الصباح، ومثلها من مساء كل يوم. 

  أشهِدُ اللهَ أنَّ منظره يؤلمني، ويوجع قلبي مآله الذي انتهى اليه، وأني أرثي حال الكتب والقصائد والمقالات التي قرأتها وكتبتها عليه. ليس الكرسيُّ وحده من أرغمت على التخلي عنه، وخرج من البيت بالوضاعة هذه، هناك مقابض الابواب والاقفال وسلاسل المفاتيح والطاولات ودواسات الاقدام، التي ندوسها عند دخولنا وخروجنا من الحمام…. الأشياء هذه التي نصادفها في مخزن الادوات القديمة والمهملة، ساعة بحثنا عن شيءٍ، شدتنا الحاجة له، حتى أنها شغلتنا عمّا جئنا لأجله، نقف عندها متأملين الايام والاسابيع والسنوات، التي أمضيناها معها. هناك ما يتهدم ويبلى في الزمن، نعم، لكنْ للخلود في بعد ما جُرجر خارج إرادتنا لحظةً سرمدية، لا تتغير ولا تبلى.

مواضيع ذات صلة

بعد سنوات من هدر المال العام.. الموانئ تنهي حقبة شركة “نافذ” بالقانون وقوة القضاء

مدير جهاز الأمن الوطني في البصرة يعزي بوفاة العميد سعد السلمي: كان ضابطاً مهنياً وإنساناً خلوقاً

“بطلة العراق الذهبية”.. العيداني يهدي نجلة عماد كورولا 2024

البصرة تستقبل الوفود الدبلوماسية.. انطلاقة جديدة نحو العالم

البصرة تستعيد تأريخها الملاحي في شط العرب

منتسبون عبر “مرفأ”: إجازاتنا مُغتصبة بكل مناسبة.. ولم نحصل على أي امتيازات