علي محمود خضير
لا تزال استجابة الفنان العراقيّ لتحديات أزمة التغير المناخي وتأثيراته الوخيمة على الحياة عالمياً وعربياً على وجه الخصوص تطرح بين آونة وأخرى محاولات جديدة للفت الأنظار وإثارة التساؤلات عبر نشاطات هي الأقرب إلى “شهادات” فرديّة وجماعيّة على الخراب الذي حلّ بأرض الرافدين جرّاء 40 سنة من الحروب العبثية والسياسيات المتهورة.
ومن بين تلك المحاولات ما قدمه المعرض الفنيّ الجماعي “جنة عدن” على قاعة أكد للفنون التشكيلية في بغداد والذي أقيم تحت شعار “أحياء الأهوار في الجنوب”. المعرض الذي رعاه معهد غوته الألماني في العاصمة العراقية ضم مشاركة ستة فنانين عراقيين هم: أسامة حمدي، حامد سعيد، زينا سالم، نبيل علي، طه عبد العال، ومحمد جاسم، قدموا رؤاهم وسط حضور جمهور ثقافي فني متفاعل وإشادة طيبة من المختصين.
معروف ما نالته البيئة العراقية من تبعات مدمرة لواقع حروب استمرت منذ عام 1980 حتى سنوات قليلة خلت. لكن بيئة الأهوار الفريدة بما توفّره من فضاء عيش يتداخل فيه الانسان والحيوان والنبات على نحو يختلف عن باقي بقاع العراق كانت له حصة قاسية من تبعات العنف تلك. إذ تعرضت الى خطط تجفيف ممنهجة بدأت منذ خمسينات القرن الماضي ووصلت أعلى درجاتها في التسعينات منه لتحقيق أهداف سياسية. ذلك أن بيئة الأهوار الخاصّة جعلتها ملجأً للكثرة من العناصر “المتمردة” على الحكومات العراقية المتعاقبة ما سبب قلقاً مستمراً لها أفضى الى قرار كارثي بتقليص تلك المسطحات المائية بالقوة عبر تحويل روافد المياه المغذية لها، وقطع امداداتها ما سبب خسارة فادحة في الأراضي الزراعية التي كانت تستمد مياهها من الأهوار. هذا الانهيار تبعه تغير في التوازن البيئي والديموغرافي إذ تسبب بتهجير 200 ألف مزارع كانوا يعتاشون على بيئة الأهوار، وفقدان 90% من مساحة نظام بيئي فريد يوفر الحياة الآمنة لملايين الطيور والأسماك والأحياء النهرية على مدار السنة. تبع ذلك بالضرورة آثاراً كارثية على صعيد ارتفاع درجات الحرارة وشحة الأمطار التي كانت تستفيد من امدادات بخار الماء القادم من الأهوار. تقلصت مساحة تلك البحيرات الطبيعية العملاقة من 200 ألف كيلو متر مربع الى 2000 كيلو متر مربع بعد انتهاء الحملة الهندسية التي قادها نظام صدام حسين ووظف لأجلها إمكانيات جيشه كلها.
جاءت بعدها فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي لتقضي على ما تبقى. فعلى الرغم من إدراج الأهوار في لائحة التراث العالمي في تموز/يوليو 2016 إلا أن ذلك لم ينعكس ايجاباً على واقعها الذي ظل يتقلص بفعل ضعف امدادات نهري دجلة والفرات جرّاء تصاعد نشاط السدود التركية، وتحويل مسار بعض روافد دجلة على الجانب الإيراني.
كل تلك المحنة، حملها الفنانون الستة عبر رؤى متنوعة وتقنيات متباينة جاءت بها لوحاتهم لتنقل رسالة استغاثة على قرب انقراض أكبر نظام بيئي طبيعي تجاوز عمره الخمسة آلاف سنة. الفنان حامد سعيد أشار الى خطورة هذه الكارثة البيئية ومسؤولية المثقف والفنان إزاء مجتمعه: “إنني أعتقد بمسؤولية مضاعفة من الفنان والمثقف في مواجهة أي تحدي يهدد حياة مجتمعه، فما يمليه عليه وعيه وحسه العالي، يحتم عليه التحرك والتنويه بالمخاطر المحدقة بأبناء بلاده وإطلاق نداءات استغاثة لعل الجهات المعنية تتدارك الموقف وتنقذ ما يمكن انقاذه”. وأضاف سعيد: “مشكلة التغير المناخي أصبحت اليوم قضية عالمية، تعاني منها أغلب أنحاء الكوكب، لكننا هنا في الشرق، وبالأخص العراق، نعاني آثاراً مضاعفةً، لذا جاءت مشاركتي متضامنة مع حجم التحدي، فشاركت ب16 عملاً استخدمت فيها مواداً مهملة مثل الكارتون وأكياس النايلون والتي تصنّف كمواد ضارة للبيئة، لكنني حاولت إعادة تدويرها وتغيير وظائفها من الهامش الضار إلى الجمالي النافع، لتقدّم هذه المهملات خطابها وتطلق أفكاراً اتجاه ما يعانيه الكوكب من تلوث مناخيّ وبيئيّ، وأشير هنا إلى خصوصية مدينتي، البصرة، وحصتها الأكبر من تبعات التلوث المدمرة”.
ويقول سعيد: “إن شمالي البصرة خسر مساحاتٍ شاسعة من الأهوار التي كانت توفر بيئة آمنة وتنوعاً إحيائياً لا مثيل له، وأن هذه الخسارة سببت لاحقاً مشاكلاً في تغير الأحوال المناخيّة التي دمرت بدورها الزراعة والاستقرار المجتمعي لتلك المناطق، لذا فأن لوحاتي اليوم هي رسالة تنديد واستنكار لما يحصل من حرب ضد الطبيعة”.
نفّذ سعيد لوحاته الستة عشر بتصميم واحد، ثمة خيط لا مرئي يمر بالموتيفات التي بدت كأنهن لقطات في شريط سينمائي مقطوع. كائنات الأهوار تجسّد بالنايلون الأسود -أشد أنواع البلاستك ضرراً- مرة، أو بالحفر على الورق المقوى والخشب مرة أخرى، لكن ما يجمع الكائنات تلك أنها بدت عائمة على مشهد من فراغ، فراغ الفجيعة التي تُغيّب الأشياء من حولك كأنها لم تكن. حتى الصياد المحفور الذي يحمل قاربه كان يطفو فوق الأرض العطشانة. كأن الفراغ تعويض عن الماء الغائب.
الأشكال مشوهة أيضاً، ومُخرّبَة. يريد الفنان مضارعة التشوه العام الذي يُشمّ ويُرى ويُلمس في كل ركن من تلك الفراديس المفقودة. حشد هياكل منحوسة. هيكل لسمكة، هيكل لطائر ماء، للقصب، لأيدي تمتد الى السماء، وآخر لحيوان بلا هيئة واضحة.
الفنان أسامة حمدي تناول ايقونة الأهوار العراقية، حيوان الجاموس، في لوحة كبيرة، صادمة وأخاذة. خمسة جثث للحيوان المدحور بفعل تدهور الطبيعة تتراصف في أوضاع متنوعة، تجمعها، كلها، أن النظرة إليها -زاوية الالتقاط- تجيء من أعلى. كأنّ الرسام يوحي بنظرة علوية آسفة لمآل الكائنات على هذه البقعة المنكوبة. أكانت عين الطائر أم عين السماء؟
يعدّد حمدي “فگرات” العمل، كان يمكن له الاكتفاء بنموذج أو اثنين لكنه ذهب للتكرار إلى حد خمسة جثث للجاموس على القماشة، تكرار يضاهي تكرار الموت في الأهوار، كل يوم وساعة لكل ما هو حي في البيئة العراقية الاستثنائية. التكرار تأكيد. ومضاعفة للمشاعر الخاصّة التي تخترق قشرة الجلد البشري وهي تسري بمشهد الموت المهيب لتلك الحيوانات الوادعة التي رافقت العراقي منذ فجر التاريخ وظهرت في رسومات معابده وأختامه وألواحه. الهيئات المتباينة لكن المستسلمة بيأس ليد القدر الماحقة تركها الرسام بلا خلفية تؤطر الفجيعة. أشكال حمدي الخمسة بدت كانت تطوف في فضاء بلا علامات دالة تشير الى زمان ومكان محددين. جرأة تحسب للفنان وهو يستغني عن متكأ “الباگراوند” ليقدّم نموذجه عارياً إلا من فكرته الخالصة وصرخته المدوية. غياب خلفية اللوحة، وسيادة البياض المقلق، ضاعفا من حضور العنصر الرئيس، الجاموس النافق، ومن بلاغة دلالته ورسائله.
اللوحتان الاخرتان التي شارك بهما حمدي مثلت ذات المشهد، موت الحيوان، ولكن عبر تصويره بالأشعة السينية والفوق بنفسجية. تمثيل ذهني لفكرة أن يتحول الموت الى عادة تلتقطه الكاميرا وتحمضّه وتكتفي بذلك. يموت الحيوان ويظل “النيجاتيف” شاهداً على جريمة جماعية لا قاتل واحد لها.
عن مشاركته في معرض “جنة عدن” يقول الفنان أسامة حمدي لـ”مرفأ”: “يعمل الفن أحياناً على تشويه وتحوير الأشكال الموجودة في حيز الواقع سعياً لإخراج مكنون واقعها الداخلي لإظهار جماليات فنية عبر اشتراطات خاصة لتأثيث سطح العمل وفضاءاته، ولكن في مواجهة موجة التلوث والخراب البيئي في العراق وفي الجنوب على نحو خاص تكون المفارقة في صعوبة نقل الأشكال المشوهة والتعبير عنها أو اتخاذها مسوغاً شكلياً لعرض دلالات ثاوية لكونها تعرض كل ما تملك من قوة تعبير وحضور مكتفية بإعلان حالات موتها وعريها وتشوهها، لذا كانت مغامرتي في ثلاثة أعمال تعرض مفهوم العطش والجفاف، الذي داهم أهوار جنوب العراق، بعمل رئيس بمسمى “عطش” يعرض خمس حالات لموت حيوان الجاموس، راهب الأهوار العتيد ومظهر حياتها، بحضوره المباشر الصريح على سطح أبيض، بلا أي محددات، ليكون مسؤولا مخلصاً عن ايصال ما لا يمكن الحديث عنه من فجيعة مؤلمة تستمر تحت أنظار الرصد الدولي الذي ادعى ضم الأهوار الى لائحة التراث العالمي”.
ويضيف حمدي: “يرفد العمل الرئيس عملان اشتغلت فيهما على عرض الأشكال تحت الاشعة السينية والبنفسجية تهكماً واتهاماً لغض الطرف والصمم الذي تحاول رؤوس القرار المحلي والدولي مواراته وتبريره. من عادتي الاهتمام بالشكل وعرضه بطاقة تعبيرية وقوة حضور وتقنية عالية، هذا ما أحبه في أي عمل، أن يكون تحدياً لعرض أشكال مشوهة بصورة فنية وجماليات إخراج فني على الرغم من أن الأشكال المرسومة عبارة عن جثث لحيوان نافق، هذه حيلة الرسم الخفية التي نقامر مع لا نهائية احتمالاتها في التوظيف والإحالة والاستعارة والمجاز البصري، علنا نقدم رؤية جديدة من منظور مختلف لما يحيط بنا من خراب”.
من اللافت أن المعرض سبقته، تحضيراً له، ورشة ميدانية في بيئة الأهوار ذاتها بالتعاون مع الفنان أسامة حمدي في أهوار ناحية “المدَيْنة” شمالي البصرة، بمشاركة 16 مدرسة ابتدائية ومتوسطة. شاركت طالبات وطلاب تلك المدارس في الرسم الى جانب بعض المشاركين في المعرض فضلاً عن الفنان عقيل خريف، وقد تم لاحقاً اختيار جملة من الأعمال الفنيّة اللافتة التي رسمها الأطفال تعبيراً عن تفاعلهم مع أزمة بيئتهم وعُرضت الى جانب اللوحات الاحترافية في المعرض وامتازت بالحيوية والفكرة الواضحة.
الفنانة زينا سالم قالت لـ”مرفأ”: “لطالما نظرتُ إلى سكان الأهوار بأنهم أغنياء بما منحتهم الطبيعة من وفرة في الخيرات، هم الذين يعتبرهم الباحثون أحفاد السومريين القدماء الذين نشأت حضارتهم على ضفاف الأنهار. ومن هذا الامتداد اخذوا الكثير من العادات والطبائع والطقوس والرموز. وأذكر هنا مثلاً رمز “سوباتو” التي تدعى شعبياً اليوم ب”أم سبع عيون” والتي ترتديها النساء كحلية فضلاً عن قناعتهن بأنها تقي من الحسد. كانت النساء يحتفلن بارتداء الملابس الملونة في موسم الحصاد الذي يصادف عيد أكيتو (بدء السنة البابلية) والذي يحتفل به العراقيون حتى اليوم ويسموه “عيد دورة السنة”، وقد حاولت الانطلاق من هذه الرمزيات في بناء معالجاتي الجمالية في مشاركتي بمشروع “جنة عدن” ضمن مفهوم التغير المناخي مستخدمةً خامات مختلفة من رمال وقماش مطبوع على سطح اللوحة.”
وأضافت سالم: “إن انحسار المياه عن مناطق الأهوار قلص، وبشكل فادح، من المساحات الخضراء وبدأ التصحر يزحف على فضاءات الحياة، وبالتالي على الحرية التي كانت جزءاً من أسلوب حياة النساء هناك -على عكس ما يشاع- فتحولت ألوان ملابسهن إلى السواد واستبدلن جدران القصب بالأسمنت. لقد هجر هؤلاء الناس أسلوب حياتهم الأثير واستعملوا طرائق الحياة العصرية فخسرنا بالتالي نسيجاً مهماً يشكل تكاملاً اجتماعياً لا يمكن الاستغناء عنه، وأعني هنا حياة الريف ومجتمعها”.
إلى ذلك عدت الفنانة سهى الجميلي تجربة مشاركتها في معرض “جنة عدن” أهم التجارب التي خاضتها في مشوارها مع فن التشكيل، وواحداً من أهم تجارب حياتها بشكل عام.
وقالت الجميلي لـ”مرفأ “فضلاً عن كونها تجربة فنية جديدة بالنسبة لي، إلا أن قيمتها الأساس تجيء من كونها مساهمة في اظهار مدى خطورة التصحر والجفاف الذي تعانيه هذه المناطق، والإهمال في أيجاد الحلول لانتشالها من هذه المشكلة. خاصة وأن الأهوار في حال تمت معالجة مشكلاتها يمكن لها أن تلعب دوراً سياحياً لا يستهان به يدر على البلاد دخلا قومياً جيداً لخصوصية وجمال المناطق هناك، الأمر الذي يجتذب السواح على المستوى العالمي وليس الوطني فحسب”.
وتضيف الجميلي قائلةً: “اشتركت في المعرض بعد أن وصلتني دعوة الى معايشة حياة الأهوار والتعرف على طبيعة ما يكابده الناس هناك. الدعوة التي رعاها معهد غوتة أتاحت لي لقاء عدد من زملائي وزميلاتي الفنانين والإفادة من الحوارات والمناقشات التي ضمتها ورشة التعايش. كما أنني لن أنسى لقائي بأطفال المدارس الابتدائية والمتوسطة في تلك المحافظات، وتعرفي على اسهاماتهم الفنية التي فاجأتني برسوم أكثر من رائعة تدل على امكانيات لا يمتلكها إلّا أبناء سومر”.
واختتمت الجميلي حديثها بالقول: “هذه البيئة الفريدة في بلدي كنت بعيدة عنها، وفترة التعايش جعلتني جزءاً منها، وقد جسدت تلك المشاعر التي لم أعهدها بنفسي من قبل في لوحاتي. إذ شاركت بثلاثة لوحات بأسلوب انطباعي، تجريدي، ورمزي مستخدمة مادة “الأكريليك” وبأحجام كبيرة، عبرت من خلالها عن الأجواء التي عايشتها في الأهوار. كانت تجربة ثرية ومحفزة، أملي أنني قد أوصلت من خلالها ما رأيته وما أحسست به بصورة حقيقية”.