مسناة: صورتُها في بيتنا القديم

طالب عبد العزيز

         بمناسبة عيد الأم

  الخطُّ الفاصل بين الشمس والظل يدفع بجسدك إلى الداخل، والخط ذاته يسحب نصفك الثاني خارجاً به الى الشمس، رأسك وكتفاك وشيٌّ من ذراعك الشَّمال في غيابة الظلِّ ما تزال، فيما تحاول الشمس لملمة نصفك الثاني، لا أظنُّ أنَّ الصورةَ أخذت بعد مقتل ابنك الكبير في الحرب، فالصبيّةُ التي تشاركك الشمس ضاحكةٌ في الصورة، لكنَّ ملامحك توحي بأسىً تاريخيٍّ، هو ما الفته عندك طويلاً يا أمّي. شيءٌ من ملامة، ومثله من عتبٍ، لا أذكر أنَّكِ شنعتِ أمراً عليَّ، أنا ابنك الأخير، الذي قطرك على كتفه من باب المطبخ الى السرير، ووسَّدك الوسادة الأخيرة، وأنا من مررَ أصابعه على عينيك وأغلقهما لتنامي إلى الأبد.

  انطوت السنواتُ بين بحثك عن الشمس في الشتاء وعن الظل في الصيف، هذه المسافة الشاسعة، عابرة الفصول الى الفصول، التي بتُّ أخطأُ في تعدادها. الرحلة الطويلة تلك التي تلتهم الشموسُ فيها نصف العمر، نصف الجسد، وتذر النصف الثاني، نصف الروح، للظلال الباردة، هل دفئْتِ ذات يوم، وهل بردت؟ وأنّى لك ذلك، والموقدُ كربٌ وجذوع وجمر يذوب أول الليل، والمراوحُ جريدٌ وخوص يحاك بصمت طويل!

  أكان شتاءً بارداً؟ ربّما توحي ثيابُك السودُ بذلك، لكنَّ الحصيرَ بزخرفه الممحو تدلُّ على زمن مشرعٍ مع ما تدلُّ عليه، كإستواء الأرض، والباب المشرعةُ انتزعت بالكامل من المصراع. من أيَّ عُطل في الشمس تسلل الظلُّ ذاك؟ وخيال من هذا الذي تحطُّ قدمُك على رأسه؟ ربّما أنا، لكنْ، في أيِّ عمرٍ كنتِ؟ لا أدري. الصورة مأخوذةٌ في بيتنا القديم، نعم، يوم كان الطينُ مادة الحيطان والغرفات المظلمة، ومن سقوفه ترسلُ الفوانيسُ رائحة الضوء، معفرة بالصمت والرطوبة.

الصبيّة تبتسم في لوحة الضوء والظل، هي تخفي نصف وجهها بيدها، ولا يبين من عمرها إلا ما تنطوي عليها الثياب السود، وتزهدُ بحاجتها إلى الظل، وتتلقف الشمس إلا قليلاً من جسدها، غير معنية بالأسى، الذي فيه أمّي. هناك وشائج لا تنقطع بينها والأسى.  فيما تلعب الحياة لعبتها الأثيرة، تلك هي لعبة الاقبال والادبار. فالصبية في الصورة مقبلة، وأمّي مدبرة فيها، هي معنيةٌ بعين المصوّر، أمّا أمي فلا يعنيها من أمرها ذلك، إلا ما هي فيه وعليه، وأنَّى لي آنذاك إدراك ما هي فيه وعليه؟ لكنني لم اسمعها تقهقه يوماً، فيما نحيبها مازال يأخذُ بي ويشلُّ روحي! لم أعِ سبباً لحزنها ذاك، غير أنني، وحين

أُفتّش في الأسباب لا أجد واحداً لسعادتها، وساعة أذهب بعيداً، سابراً غابة المباهج في حياتها لا أعثر إلّا على القليل، لكنني كثيراً ما وجدتها تتعثّر بأذيال آلامها وأحزانها.

  في صيف السنة قبل الأخيرة من عقد الخمسينات، جلستُ أنتظرها على عتبة البيت، وقد انقضى عمر شمس ذاك اليوم على عباءتها، كانت قد اصطحبت خالتي إلى بريّة بعيدة في الشعيبة، التي يعسكر فيها الانجليز، حيث حُبسَ أخي الأكبر هناك. ما كنتُ أعرفُ أنَّ الطريق الطويلة تلك لا تُسبرُ وتقطع بمركبات الزيت، وأنَّ عربات الخيل هي الوحيدة التي تقلُّ الزائرين إلى هناك! لكنني، أعرفُ انَّ الطريق التي تبدأ من قريتنا على النهر بأبي الخصيب وتنتهي بالشعيبة ستمرُّ بنقطة باب الزبير، التي بالبصرة القديمة، وأنَّ عربات الربل ذات الحصانين هي التي تقلُّ الناس إلى مبنى مستشفى الجنرال مود (الجمهوري) ستنطلق من باب الزبير- أنا الذي كنت أظنَّ الباب تلك واقفةً على حائط صغير ببلدة الزبير- فيما الطريق إليها تبدأ بصعود عربة أخرى، يجرها حصانان آخران، وهكذا، ستبلغ أمّي مع خالتي برية الشعيبة المحرقة متأخرتين، بعربات وأحصنة كثيرة، وستتناوب جائحتا الشمس والظلال، الثبات والترنح على جسديهما حتى إذا آبا دخلت.   الآنَ، ستبدو الصورةُ واضحةً، فأمّي التي تغرقُ الشمسُ نصفَها الآن، ولا تبدو حزينةً كما ستكون عليه ذات يوم، إنما هي تستعيدُ بعضاً من زيارتها إلى محبس أخي، بمعسكر الانجليز، في الرحلة المحرقة تلك، لكنها تهيئُ ما بقي من جسدها لظلال الصورة، مستجيرةً بها من النار، التي ستحرقُ كبدها، في حرب الثمانينات، يوم تناهبت الشظايا جسد ابنها الثاني، بعد نصف قرن على عودتها مع خالتي الى البيت، حي

مواضيع ذات صلة

بـ٥٠ خطأً إملائياً ولغويّاً.. قصر “الثقافة والفنون” يناشد السوداني

العامري يحشّد أهالي البصرة للتعداد: سيُزيد فرص التعيين والرعاية والخدمات

لا أحد على رملة الفاو 

“ضغطة الزر المهمّة”.. ماذا يعني افتتاح الأرصفة الخمسة في ميناء الفاو؟

البصرة تنجز وعدها.. “مرفأ” تنشر ملخصاً لافتتاح الأرصفة الخمسة في ميناء الفاو

صوّره في بغداد مُدعياً أنه بميناء الفاو!.. “واحد توتر” يدلّس على جمهوره بمقطع فيديو