مغايز: القهوة المغتربة

تمارا العطيّة

تتنوع القصص التي تسرد لنا أصل اكتشاف عشبة القهوة واستخدامها كمشروب ساخن يزيد من يقظة الانسان ونشاطه. ويتنوع أبطال هذه القصص بين رجال دين، وشيوخ، وقساوسة، وعلماء لاهوت، ومستشرقين ورحالة. لكن، تتفق جميع هذه القصص على صدفة هذا الاكتشاف وعلى موقع حدوثه؛ بين أفريقيا، والشرق.. الشرق الساحر.

“عالم ثالث يهدي العالم الأول هدايا كثيرة”

تزيد هذه الحقيقة، ربما، من الشعور المثير نحو الشرق عند المواطن العالمي، وتكدس النظرة النمطية، الجيدة في هذه الحالة، عن الشرق الرومانسي الفتان، والتي تعود بجذورها لعصور التدوين والترجمة ونقل أخبار الحضارات الأخرى في العالم، وبصورة أدق، يمكننا القول بأنها تعود لوصول اخبار الخلافة العباسية وحكاياتها وأساطيرها للغرب المظلم آنذاك، ومن ثم للطبعات الأولى من حكايات “ألف ليلة وليلة” في القرون الوسطى من الألفية الثانية. وفي الواقع، لا شيء يضاهي فنجان قهوة أُعِد بدلّة شرقية/ عربية بيد فرد منتمٍ أصيل، رغم تنوع الفناجين/ الأكواب، والدلال والطواحين والمكائن. فكل مكان بالعالم له قصته الفريدة مع القهوة ونشأتها وأصلها، والكل يطالب بشهادة منشأ القهوة الأول في العالم. ولكي نبتعد عن خطاب “نحن أصل كل شيء” (الحقيقي بنسبة ما، والمتبذل في سياق تكراره بمبالغة)، فقصة القهوة لا تتعلق فقط بنشؤها وموطن تناولها الأول، بل تتعلق ببلورتها كثقافة للتجمع البشري المجرد والمرتبط بغرضٍ ما، كالأدب والشعر والفن. وبذلك، فأن دول العالم ومدنها أضافت إضافتها التدريجية في نشوء هذه الثقافات، تزامناً مع إيجادها للنكهات والوصفات المختلفة التي أعطت لها أسماء تدوي بها مقاهينا المحلية اليوم.

فاليوم، يكاد لا يخلو حي أو منطقة في مدننا من وجود مقهى يقدم بديهياً أصناف من القهوة الإيطالية، على الأغلب، والتركية وثم بعض الوصفات المحلية (إن وجدت). وهذا ليس بالأمر القديم، فازدهار المقاهي في العراق، وفي البصرة تحديداً لم يبدأ الا في السنوات القليلة الماضية. وإذ وُجِدت المقاهي دائماً ومنذ مئات السنوات، إلا أنها كانت بإعداد محدودة وبمناطق شعبية على الأغلب، وكان روادها من الرجال حصراً، إضافة لتقليدية القهوة المقدمة والديكور؛ “كرويتات” خشبية مرصوفة بطريقة عشوائية، دلة شموضوعة على رماد ساخن وفناجين. أما الآن، فقد أصبحت مثل هذه المقاهي التقليدية مواقع نادرة، حتى أصبح بعضها قبلة للسياح، لتفردها ولكونها من الشواهد الأخيرة المتبقية من إرث حقيقي أصيل غير مستنسخ. يَسرقُ منها، توافد السياح روحها ووظيفتها العفوية كمقهى بسيط يرتاده أناس يرغبون بقتل الوقت ببعض الألعاب اللوحية، وكوب من المشروب الغامق هذا؛ السياحة غالباً ما تفعل ذلك في أي مكان أصيل تدخله.

“مشهد: الرجل الذي كان يلبس اللباس العربي التقليدي، الثوب والغترة والعقال، والمنغمس كلياً بأسلوب حياته الحديث الذي وضعته له دولته المتطورة، كان يجلس في مقهى سلسلة عالمية، ويحتسي قهوته “الإسبريسو”، لكنه في لحظةٍ ما وبتركيزٍ عالٍ وبمعزلٍ عن كل من حوله، كان يرج كوبه ويرسم به دوائراً في الهواء، كأنه يبحث عن ركوة في قعر الدلال”.

إن موجة دخول أسلوب المقاهي العالمية بمدننا العربية ماهي إلا جزء بسيط من موجة عولمة أكبر تجتاح مجتمعاتنا وثقافاتنا بشكل سريع ومخيف. إذ نعيش اليوم حياة مقولبة بطريقة غير متناسقة ومشوهة في نسق متعثر بين بقايا ممارسات أصيلة وأخرى متعولمة، عملية ومناسبة! واذ إننا منغمسين بشدةٍ بين طياتها، أصبح من الصعب أن نفصل أنفسنا وندرك أهمية العودة للأنماط التقليدية المناسبة، بشكل بديهي للوظيفة أولاً، وللهوية، ولغيره الكثير. فغدت أكواب القهوة الإيطالية مؤشراً عن المعاصرة الفاتنة قبل الاستمتاع بنكهتها اللذيذة. ساعدها بذلك مواقع تواصل اجتماعي جعلت من العالم قرية صغيرة، وصنعت من هذه الأكواب، مع وجود كتاب على الاغلب، مؤشراً حتمياً لثقافة شخص ما سيشارك صورة لهذين العنصرين المُدويّين.

“هل من الأفضل تسليم الفاتورة عند استلام طلب القهوة؟ أو عند الوصول مباشرةً لمنفذ الاستلام؟ او الاحتفاظ بها؟؛ أشياء محيرة كثيرة!”

وعلى الرغم من الوجود المتشظي للقهوة اليوم في مجتمعاتنا، لكن عودتها القوية هذه خلقت مساحات جديدة كان الجميع بحاجتها، تحت إطار التواجد بمجتمعات حضرية تتطلب التجمع والتحادث واللقاء في فضاء المقهى، وتتطلب أيضاً العمل لساعات طويلة ومنتجة (حلول أولية لتبعات ثورة صناعية) تساعد القهوة فيها كمشروب فعال في التنشيط واليقظة. فعززت هذه المقاهي تدريجياً من الروح التي كانت بحاجتها مجتمعاتنا، تزامناً مع فترة من الانفتاح النسبي وازدهار ثقافة الخروج خارج أسوار المنزل للترفيه عن النفس ولقضاء الوقت. حتى أصبحت هذه المقاهي تدريجياً مكاناً مناسباً يرتاده الجميع، والنساء من ضمن ذلك. إذ لم يكن من السهل بالنسبة للنساء التواجد في مقهى أو لقاء الأصدقاء في فضاء خارجي. بينما تشكّل النساء اليوم في مدن كمدينة البصرة نسبة جيدة جداً من مرتادي المقاهي، وخاصة تلك التي لها ديكورات فنية ومعاصرة، والأخرى الخاصة بالاجتماعات العملية والدراسة. ترتاد هذه المقاهي أيضاً شرائح عديدة من أجيال حديثة اكتسبت عادة الجلوس بالمقاهي بشكل تدريجي وطبيعي مع نشأتها، وهي تختلف عن أجيال أكبر عمراً شعرت/ تشعر أحياناً بشيء من عدم الراحة وهي تحاول الاندماج بنظام المقهى المتبع في فروعه المختلفة حول العالم؛ اتخاذ القرار بين أنواع عديدة من القهوة وأحجام اكوابها والإضافات عليها، وثم الاصطفاف بطابور استلامها مع فاتورة بأرقام وتفاصيل يشعر الفرد هو في غنى عنها.

تذوب هذه النقاط المحيرة تدريجياً مع توافد اعداد أكبر من أجيال مختلفة للمقاهي هذه. فلا يحتاج الأمر الا بضع زيارات للاعتياد على أسلوب موحد في مقاهي العالم لطلب كوب قهوة. وما ان اتقنت هذا الأسلوب بخطواته، ستشعر باغتراب اقل وانت تطلب كوب قهوتك ذاتها في أي مقهى اخر في العالم. وستشعر بالزهو وانت تخبر النادلة او موظفة الكاشير بطلبك من القهوة الإيطالية المتقن، والذي تفهمه هي جيداً، رغم اختلاف خلفياتكم الثقافية واللغوية والقومية.

“تهانينا، انت مواطن عالمي!”

القهوة، التي غادرت الشرق كسلعة تداولها المستعمرون والتجار الاوربيون لتصبح الوجه الأكثر وضوحاً للاقتصاد الاستهلاكي العالمي، عادت لنا مرة أخرى كقهوة مغتربة، بنكهات جديدة واتكيت طلب مختلف وطريقة احتساء مغايرة. لكنها، وبحلتها الجديدة هذه، استطاعت أن تعيد ثقافة التجمع والتواصل الحقيقي (بينما نمر بأزمة سيطرة التواصل الإلكتروني الجامد)، وأن تخلق المساحة المطلوبة لذلك وأن تعزز من وجود مجتمعات صغيرة تجد في هذه المقاهي حيزها المناسب للتعبير عن نفسها وحضورها.

مواضيع ذات صلة

(استرجاع): هذه المفردات؟!

صورة خامنئي ثم “الوحدة مؤلمة”.. شايع يعتذر عن التواصل بالرسائل بسبب “الحالة الصحية”

السعد: نسعى لجعل مقاطعة نهر الباشا النواة لإنشاء القرنة الجديدة

أبو تراب التميمي: لا أحد أفضل من “الشيخ” أسعد العيداني بما فيهم عدي عوّاد

العمالة العراقية في الشركات الأجنبية تستغيث

بعد موافقته على مشروع بالحيانية.. سند يشكر العيداني: لم يهمل خدمات مناطقنا