نخيل البصرة.. الملح لا يقتل الأمل!

“ما ابيع طوكي والبشير يلوح”

بعد أن كان العراق إبان حرب الخليج الأولى 1980 يُرسل حوالي 500 ألف طن من التمور الفاخرة إلى خارج البلاد، كأوّل مصدِّر بالعالم (حصّة آسيا وإفريقيا منها 100 الف طن)، وبعد أن كانت البصرة، أقصى جنوب العراق، وحدها منقوشة بـ32 مليون نخلة في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، وأكثر من 600 نوع وصنف مختلف من أصناف التمور.. باتت المدينة المطلة على شطّ العرب لا تحتكم إلّا على مليوني نخلة تتوزع على بساتين متفرقة، شاء القدر أن تكون بعيدة، مصادفة، عن آلة الحرب والدمار التي تعمل بكد في المدينة منذ 37 عاماً.

يقول المثل الشعبي البصريّ: “ما ابيع طوكي والبشير يلوح”، والبشير في لهجة سكّان البصرة معناه أول بشائر عذوق التمر الناضجة. والمثل تتداوله الفلاحات البسيطات ومغزاه “لن ابيع حليي ما دام في أعالي نخلتي بشائر تمر ناضج” ممنية النفس بأن تبيعه لاحقاً وتسد حاجتها للمعيشة. فصناعة التمور هي مهنة السواد الأغلب من فلاحي البصرة الذين ظلوا لعقود يعيشون بفيء سعف نخيلها وعطاء ثمرها وخيرات بساتينها، ويكبّرون ابنائهم بما يكسبوه من فلاحتها.

بلغت صناعة التمور أزهى عهودها بدءاً بعام 1960، بتأسيس “مصلحة التمور العراقيّة” التي توزعت منشآتها على طول المدينة وعرضها، فانتشرت مكابس التمور ومباخر العزل والتنظيف ومكائن الكبس والتغليف الفاخر، واستوردت الشركة مخازن تبريد ضخمة ومنشآت حفظ متطورة ساهمت بتحقيق صناعة التمور العراقية لطفرة نوعيّة جعلها في طليعة كبار منتجيه في العالم.

وقد بلغت صناعة التمور أزهى عهودها بدءاً بعام 1960، بتأسيس “مصلحة التمور العراقيّة” التي توزعت منشآتها على طول المدينة وعرضها، فانتشرت مكابس التمور ومباخر العزل والتنظيف ومكائن الكبس والتغليف الفاخر، واستوردت الشركة مخازن تبريد ضخمة ومنشآت حفظ متطورة ساهمت بتحقيق صناعة التمور العراقية لطفرة نوعيّة جعلها في طليعة كبار منتجيه في العالم.

سيرة النخل-سيرة الخراب

 وتبدل الحال منذ مطلع السبعينيات بسبب جملة من السياسات الزراعيّة الخاطئة والتي تمثلت بعدم معالجة عوامل التعرية المستمرة في ضفتي شط العرب التي تجرف معها سنوياً عشرات الآلاف من أشجار النخيل من البساتين الممتدة على الشاطئين، كذلك سوء التعامل مع الآفات الزراعية وضعف خدمات المكننة والتقنيات الحديثة في العناية المستمرة التي تحتاجها اشجار النخيل موسمياً فضلاً عن ارتفاع أجور اليد العاملة في مجال صناعة التمور لما يحتاجه النخل من عناية معقدة وجهد بدني عالي وخبرة لا تتوفر بسهولة.

 فانخفض عديد حاملة التمر الى 24 مليون نخلة في إحصاء عام 1970 الصادر عن مصلحة التمور العراقية لتأتي بعدها سلسلة المشاكل الحدودية مع إيران والتي انتهت بحرب الثماني سنوات تلك التي قضت على نصف بساتين النخيل في المدينة ليتراجع عديدها في إحصاء المصلحة ذاتها للعام 1989 إلى 16 مليون نخلة فقط الأمر الذي الحق ضرراً ليس بعذوق النخيل وحدها، وإنما في اقتصاد المدينة ونسيجها الاجتماعي حيث أضطر المئات من الفلاحين إلى هجر أراضيهم والعمل بمهن أخرى داخل المدينة مثل قطاع الخدمات والبناء. وقد سبب نزوحهم هذا اضطراباً مؤثراً في البنية الاجتماعية للمدينة ضمن ما عرف لاحقاً بموجات (ترييف) المدن وما صاحبه وجودهم من مشاكل اجتماعية جراء اختلاف الثقافات والأعراف والتقاليد لمدينة عرفت بميولها المدنيّة أبان السبعينات.

الملح القاتل                   

سيرة الخراب امتدت إلى ما بعد غزو العراق في نيسان /أبريل عام 2003، إلا أن الصيغة هنا قد اختلفت، فالحرب التي كانت بالصواريخ والجنود صارت الآن حرب مياه، فبعد أن تراجعت مستويات حصّة العراق المائية جراء السدود التركية الجديدة وبعد أن حولت إيران مصب نهر الكارون الى داخل أراضيها بعد أن كان يصب في شط العرب ظهرت أزمة انخفاض منسوب المياه في شط العرب والذي تسبب بصعود اللسان الملحي القادم من الخليج العربي وارتفاع نسبة الملوحة في مياه البصرة لدرجة قاتلة سببت تلفاً بالغاً لأعداد هائلة من بساتين النخيل. وبحسب بيانات نقابة المهندسين الزراعيين في البصرة فأن تفاقم أزمة ملوحة المياه أدى الى انهيار زراعة النخيل في المناطق الواقعة جنوب المدينة، فيما كان الضرر أقل في المناطق الواقعة شمال المحافظة لمحدودية تأثرها بالملوحة.

وتؤشر النقابة على أن قضاءي الفاو وأبي الخصيب ما عادا صالحين لزراعة النخيل ومعظم الفسائل المزروعة حديثاً ماتت جرّاء ملوحة المياه العالية، مثلما تضررت مئات آلاف النخلات القديمة بسبب التراكيز الملحية الذائبة في المياه والتي تصل نسبتها أحياناً الى أكثر من تسعة آلاف جزء في المليون، في وقت أن النخيل يحتاج الى مياه لا تزيد تراكيزها الملحية عن أربعة آلاف جزء في المليون.

وتؤشر النقابة على أن قضاءي الفاو وأبي الخصيب ما عادا صالحين لزراعة النخيل ومعظم الفسائل المزروعة حديثاً ماتت جرّاء ملوحة المياه العالية، مثلما تضررت مئات آلاف النخلات القديمة بسبب التراكيز الملحية الذائبة في المياه والتي تصل نسبتها أحياناً الى أكثر من تسعة آلاف جزء في المليون، في وقت أن النخيل يحتاج الى مياه لا تزيد تراكيزها الملحية عن أربعة آلاف جزء في المليون.

ولم تستطع الحكومة المركزية من وضع حل لقضية تراجع حصّة العراق من ماء دجلة والفرات برغم الزيارات الحكومية المتعاقبة لتركيا وإيران وبيانات استنكار برلمانيّة هنا وهناك ووعود ظلت محض كلام على ورق. وتلفت تصريحات لمختصّين في النقابة إلى أن المناطق الشمالية للبصرة (الدير والهارثة والقرنة والنشوة) انتعشت فيها زراعة النخيل بشكل لافت خلال الأعوام الأخيرة وصارت تضم الكثير من بساتين النخيل، لأن المد الملحي القادم من الخليج لم يصلها وبالتالي فأن آلافاً من الفسائل الجديدة التي تغرس سنوياً وجدت بيئة مناسبة لها.

غير أن المساحات الجديدة لم تعوض التدهور الحاصل في صناعة التمور العراقية لأن البساتين المعروفة باحتوائها على أصناف فريدة ومهمة من التمور هي البساتين الجنوبية (المتضررة بالملوحة) فيما أن معظم بساتين شمال البصرة الحديثة ذات أصناف أقل أهمية ووغير مرغوبة لذا ظل العراق فاقداً للسوق العالمية لبيع وتصدير التمور ولم يستعد سمعته السابقة بل العكس فأسواقه الآن تعج بأصناف تمور مستورد من دول مجاورة.

من جهته، فأن مجلس محافظة البصرة كان قد تبنى تشريع قانون محليّ في 9 نيسان / أبريل عام 2014 للحفاظ “على ما تبقى من أشجار النخيل” ودعم التمور المحليّة، ونصّ القانون على فقرات مشجعة منها دعم وتسهيلات الى تجار التمور وفلاحي بساتين النخيل تمثلت بقروض بنكيّة ميسرة واعفاءات ضريبية، كما تضمن القانون عقوبات صارمة بحق المتجاوزين على البساتين ممن يجرفونها أو يستغلوها لبناء عقارات سكنية وتجارية، غير أن القانون واجه تغييباً مؤسفاً ولم يجد طريقاً لتنفيذه ضائعاً في زحمة أجندة الحكومة الغارقة في مشكلاتها، فيما تتردد أحاديث بأن القانون غيّب حفاظاً على مصالح متنفذين مقربين من القوى السياسية ممن يعملون في استيراد التمور القادمة من إيران وبعض الدول الخليجية ومن تجار الأراضي الزراعيّة الذين يرومون تحويلها إلى أراض سكنية وأستعمالها لأغراض تجاريّة، حيث شهدت البصرة آليات البلدوزر العملاقة وهي تهدم مبنى مصلحة التمور العراقية الواقعة في شارع الكورنيش عام 2017 ليتحول الى كراج عمومي.

وجاء التجريف ليزيد معاناة بساتين النخيل في المدينة جراء زحف الأهالي عليها مع تفاقم أزمة السكن وتأخر الحلول الحكومية. معاون محافظ البصرة لشؤون الأقضية والنواحي قال عام 2021أن المحافظة اعدت خطة لتطوير زراعة النخيل وزيادة محاصيلها ومشاريع اخرى لتدوير زراعة النخيل في كافة الأقضية والنواحي لكنه ربط هذه المشاريع بالتخصيصات المالية لترى النور.

ويظل مزارعو البصرة بين ترقّب قرارات وزارة الموارد المائية في تعيين موقع إقامة السد الموعود على شط العرب وبين واقع تعصف فيه الملوحة والتجاوزات ينتظرون البشائر كل مطلع موسم مليء بالوعود والتحديات.

مواضيع ذات صلة

استرجاع: لغةُ الإشارة.. لغةُ الكلام

يوم “حزين” في البصرة.. ثلاثة حوادث مختلفة تودي بحياة سبعة أشخاص

عطبٌ “يغيّب” الكهرباء عن أهالي حي المهندسين في القبلة

غير مسؤولين عن الخلل.. شركة النرجس “تتبرأ” من عطل أدى لقطع الكهرباء في مناطق جنوب البصرة

تخص الألغام والمقذوفات.. مكتب حقوق الإنسان في البصرة يقدّم 4 مطالب لمجلس المحافظة

صورة البصرة التي نريد