طالب عبد العزيز
يستوقفنا عنوانه المثير كتاب اليوميات “مهنة العيش” للكاتب الإيطالي تشيزاري بافيزي، العنوان حسب. نعم، العيش مهنة، وهل يكون غير ذلك؟ وبطبيعة الحال، بيننا من يحسن التعامل مع المهنة هذه، بكل تأكيد، أما الغالبية، وللأسف، فهم الذين لا يجيدونها.
نحن نعيش الأزمنة والامكنة وما بينهما من وقائع وأحداث، دونما تدبير منّا أحياناً، فنترك الاقدار تسوقنا بحسب مشيئتها، وقد تسوقنا حيث نسعى ونأمل، لكننا، كثيراً ما نجدُ أنفسنا وقد انفقنا الاعمار والاجساد والحواس والمشاعر خارج حدود المهنة الجميلة هذه، هناك من يتصرف على غير ما نشاء ونحب.
ما كان لبنّاء الفنار، على ساحل البحر أنْ يتصور شكل الطائر، الذي سيحطُّ عليه، ليبدو المشهدُ لنا جميلاً، هكذا، ومثله كان مصممُ برج الكنيسة، حيث تحطُّ وتسكن أسرة اللقالق، بصغارها البيض آمنة، في المشهد الذي أصبح جزءاً من نسيج معاينة العابرين، الذين يرقعون بأبصارهم ما تكسر من الافق، كذلك، سيكون مهندس منارة المسجد، الذي طرّمح بها عالياً، حتى خالطت الفضاء الازرق، بمصابيحها، ويفعل الشيءَ ذاته، عامل طلاء قوارب النزهة، على البحر القريب، هذا، الذي لم يكن ليختار ألوانه الجميلة هذه، لولم يكن الماءُ أزرق شذرياً. نحن، نتأمل الزاوية باذخة الطمأنينة، دونما وعي منا بتناسقها، ما أجمل ما نعرف، بل وما نجهل أحياناً.
في المطعم، الذي أخرج ندَّلُه بعضاً من مقاعده على الرصيف، يمتد طويلاً، لصق القناة، بالمدينة، وجدتني مأخوذاً بتناسق المقاعد الزرق مع الطاولات، ذات الشراشف البيض، وبالمناديل التي جعلت على هيئة زهرة اللوتس في الكؤوس. كانت الشمس طفلةً على الماء، ولمّا يدخل المطعم أحدٌ بعد، فظلَّ كل شيء على حاله، كما أريد له كل صباح.
لم يكن النادلون بزيهم المشترك وبطرابيشهم خارج المشهد، ابداً، كذلك كانت امرأة الكاشير على آلتها، وبتسريحة شعرها، والأساور التي تزين يدها، ومع اسلاك الهاتف والقطع النحاسية، التي تمنع تطاير الاوراق. كل قطعة في المطعم كانت متعالقةً مع القطعة الأخرى، في ودٍّ وتناسق هارموني، لا أظنه كان عفوياً وغير معلوم، حتى بدا المصباح، غير المضاء، في الممر، الذي يفضي الى البار قصداً وغايةً. هنالك مساحة معلومة للظلام أيضاً، تشيأت لتكون العلامة الفارقة في المكان.
آه، لو عرفنا اسمَ الفلاح الاول، الذي غرس الورد الجهنمي، الاحمر أو البرتقالي، وسوّر المنازل به، وجعلها جميلة هكذا، فقد كان عبقرياً بحق، هذا الذي أجبر عمال الطلاء على ان يكون اللون الابيض وحيداً لها، وأظنه، هو ذاته، الذي قال لنا بأن نجعلها واطئة، بعض الشيء، لئلا نحرم المارة من التمتع بمنظر العشب والورد وشجرة الأكاسيا، التي تطل بزهرها الاصفر منه، هلا تحدثنا عن الذين ابتكروا القرميد، وكيف اهتدوا الى اللون الفارع، الذي لم يسم من قبل في قائمة الالوان، وكيف جعلوه مائلاً، ليغسله المطر. لا حياة لنا خارج الاشياء هذه، هي تتشكل وتتكون، بوعي منا أو بدونه، علينا أن ننحني للإنسان الغامض، الذي فينا، هذا الخلاق الكبير، مثلما علينا ان نصغي طويلاً للطبيعة، وهي تتشكل من حولنا منذ ملايين السنوات. ثمة ايديولوجيا مشتركة بين الطبيعة والانسان، وأن جملة من لغات مبهمة تناوبا على تداولها معاً، نحن نتسلم بديع ما حولنا بهدوء، في عالم لا يخلو من العابثين، الذين لا يحسنون مهنة العيش.
يحدثني أحدهم عن دبي، المدينة العملاقة، فلا يخفي خشية عليها، من اندلاع حرب جديدة في الخليج، بسبب التوتر الازلي في الشرق، فيلفت نظري الى حقيقة وجوهر قضية كهذه. أقول، لا، لم تعد المدن هذه خالصة لأحد، وما نحن في جوف مكوك غير متقن الصنع، يطلقه جاهل أحمق.
المدن العظيمة والتاريخية ملك يمين الانسان، أيّ أنسان، وفي كل مكان، اما قضية تدميرها فهي غير قائمة في عقلي، ليست دبي وحدها، إنما مدن العالم أجمع، نحن ملزمون بالعناية والحفاظ على الجهد الانساني النبيل هذا. ما حققه الانسان وأسس له من طرائق العيش والفكر البناء وجملة القيم النبيلة، خلال وجوده على الارض كان باهضاَ، وقد كلفه حياته في أحيان كثيرة، لذا فهو يستدعينا بوصفنا نتاجه، لم نعد نملك الوقت للعودة الى الكهف ثانية. كان نادل الحانة يضع يده الشمال خلفه، وهو يملأ كأس النبيذ باليمين لي، وكنت أتأمل انحناءة جسده، وقطعة القماش التي يلفّها على خصره، ولما غادر مبتعداً، وقد ابتلعت الظلمة نصفه الذي الي سمعته وهو يصفّر سعيداً، فرحاً. كنتُ قد استحسنتُ نبيذه.