صورة الإنسان في مدينته

طالب عبد العزيز

نحن في زمن غريب، في بلاد غريبة، بين أناس تقطعت السبل بيننا وبينهم، مع يقيننا بأنَّ الأيام والشهور والسنون هي، هي منذ الخلق الأول، والبلاد هي تلك التي ولدنا فيها ومازلنا عليها، والناس هم أهلونا، حيث عرفنا ولا نعرف غيرهم لكنَّني أتحسس القطيعة من كثير في ذلك(الزمن، البلاد، الانسان) أحاول أن أكون غير ذلك، لكنَّ الوقائع لا تأخذ بيدي، والأسباب تمنعني، وفي صندوق الغيب لا أعثر على مصباحي الذي فقدت.
الشوارع سود، والمباني رمادية، مرتجلة، وبحسب مشيئة صاحبها، إدارات المدن غير معنية بألوان الدور والمحال والمؤسسات، الرجال بأذقان سود، والنساء بثياب سود أيضاً، هذه مدن مظلمة، ليس فيها معلم بصري (بتعبير صديقنا المهندس المعماري د. أسعد الاسدي) نعم، هناك مبان لمدارس أهلية ومتاجر كبيرة وحديثة ومن فكر أصحابها بتلوين الواجهات تلك، إنما بغرض جلب عدد أكبر من الطلاب أو الزبائن، وبيوت لمترفين جدد ومثل ذلك هناك واجهات تبدو بحال أفضل، لكنَّ ذلك لا يجري على وفق هارموني ما، من شأنه أنْ يكون متناسقاً، إذْ، لا وجود لما ينظم العلاقة المادية مع الجانب المعاين والبصري.
يبني الولدُ بيتَه في حديقة بيت الوالد، فتختفي نخلة العمر، التي غرسها، وتختفي معها شجرتا العنب والليمون، وتذهب الى غير رجعة، شجيرة الآس، وشتلات الورد الجوري، وينكشف السياج عن لوح اسمنتي رمادي، صامت بعد اختفاء تسريحة الجهنمي، وهكذا، تحولت حديقة بيت الجيران الى محل تجاري، وارتفع سلّم من الحديد الصديئ، فأخترق النسق الجميل، الذي كان، لتعلو شقّة الولد الأصغر صفيحاً و(سندويج بنل) وثآليل بنائية أخر، تمنح الفضاء مشهداً لا أقبح منه. ولا نعرف كيف تبدو صورة مدننا من الجو، فنحن لا ننظر من نوافذ الطائرات إلا للمدن الجميلة الباهرة، ذات الحدائق الواسعة والسطوح القرميدية.
تأخذنا أوهام الجمال أحياناً فنحضرُ معرضاً تشكيلياً، لفنان ما، أو لمجموعة فنانين، ونذهب تحت عناوين مشتركة، ليس أقلها العثور على لحظات جميلة، تخفف من وطأة ما نعيشه، لكننا، غالباً ما نعود بالخيبة من هناك، فالفنان نتاج الألوان تلك، وهو محصلة للألم الذي نكابده معاً، فلا مباهج لونية، ولا حدائق، ولا نساء جميلات بصدور بيض ناهدة، ولا سيقان فاتنة، ولا علاقات حب عارمة ترسلها المقل العاشقة، فكل ما كان معلقاً هناك موحش وصادم، امّا مشاهد الورد والوجنات البراقة والبراءة والطفولة التي نفترضها في لوحاتهم فلا وجود لها، لقد ذهب الفنان الى التجريد والتغريب ليجيء لنا بفوضى حياتنا، التي هربنا منها.
يتحدث محبو الاغنية العراقية عن فترة السبعينات فيصفها بعضُهم بالعصر الذهبي!! ولا أعرف كيف يصف هؤلاء اغاني النواح والوحشة والغربة والحرمان بذلك؟ ولا أدري كيف تُفهم معاني الذهب، وتقلباته البراقة على صدور الجميلات بحشرجات صوت ياس خضر الملّائي مثلاً، ولماذا تصبح أغاني مثل يا حريمة، وتايبين، ومدللين، ومشيت وياه للمكير، ومرينه بيكم حمد، ولا تدور زرار للزيكه هدل، وهم رجع كلبي يحن، ويا غربة، وبيّنْ علي الكبر، وغريبة الروح .. والى ما لا نهاية له من العناوين التي تؤكد اليأس والفقر والمرض ولا دالة فيها على الفرح. وهنا، لا أتحدث عن الصوت والاداء والموسيقى إنما عن الكلمات التي تستدعي النواح والصوت المبحوح والجنائزي.
وانا أخطُّ حروف الورقة هذه، وجدتني محاصراً بالقبح كله، ولتلافي ذلك فقد هربت الى مائدة نزهت، الى صاحبة (أم الفستان الاحمر)، الى (هل الليلة حنتهم، بالبصرة زفتهم) الى (لا يا هوى لا تلعب بحالي لعب) الى الغنج كله والصوت البغدادي الحُلمي، الى الحنجرة الملائكية، الى الطفولة الابدية، أردتُ أنْ أتبغددَ معها، وأن تطوّحَ الحانات والمقاهي بروحي الظامئة أبداً، أردتُ أنْ ترتطم بقلبي كل الشوارع المشجّرة والنساء الجميلات بشعورهن وهي تطير والنؤاسات التي كانت مضيئةً ذات يوم، أنْ أذهب الى العمر الذي كان هناك، فهي تسمعني الآن: عاشقين، والعمر غنوة وحمام وياسمين/ عاشقين، والصبر خضّر أمل، ورد وحنين/ ضحكت الدمعة بجفنها/ غسلت الفرحة دمعها/ كل صبح ويّه المحبّة معيدين، عاشقين.
إذا كانت حكومة البصرة المحلية قد أوقفت العمل بمشروع سوق البصرة لعدم قناعة المحافظ بالسقائف، في إشارة واضحة الى رداءة العمل، والصورة السيئة التي سيبدو عليها المشروع، فهذه وقفة جديرة بالإشارة اليها، ومعاينة عشرات الاعمال والمشاريع التي تسهم في رؤيتنا الى الوجه الآخر للمدينة التي نحب، ولأنَّ الانسان ابن المكان، وهو جدير بالمكان اللائق، والصورة الحسنة لمحيطه ستغير من هيأته، وتسهم في بناء روحه، وملبسه وبقية تفاصيل حياته وما يقتني، وما يسمع ويشاهد.

مواضيع ذات صلة

وفاة أحد وجهاء بني مالك بسبب عطل “مفراس” مستشفى القرنة والمالكي تعلن فتح التحقيق بالحادثة

الفساد بين أصبعي القضاء والإعلام

بعد زيارة بزشكيان.. عبد اللطيف: البصرة ستتحول مقصداً للدول.. تنتج 7 ملايين برميل نفط يومياً

بزشكيان في البصرة.. والعشائر تلبسه “البشت العربي”: الفيحاء تعود للواجهة الدولية

الفريجي عبر “مرفأ”: الأمن الوطني ضبط متهمين يوهمان المواطنين بالتعيينات مقابل مبالغ مالية

تعرض مدير شعبة المعقل للاعتداء بالضرب بسبب نقله أحد العاملين