صورة البصرة التي نريد

                                                            طالب عبد العزيز

يتضايق سكان الجنوب والبصريون بخاصة من الحر والشمس اللاهبة وارتفاع درجات الحرارة، لكنَّ البصرة لن تكون مدينة للبصريين خارج منطق الطقس هذا، فقد ارتبطت بجملة أسباب تجعل من قسوة الطقس هذا تعلات لأهلها، ذلك لأنَّ تمرها لا ينضج ولا يكتسب درجته القطعية بالحلاوة واللذة إذا لم يأت تموز عليها بشمسه، ولن يدخل السمك الصبور شطها إذا لم يرتفع مستوى المدّ وتصعد الرطوبة، ولن يبلغ أهلها كمال صفاتهم خارج منطق الطبيعة هذه، وما يتذمرون منه اليوم سبق أن تذمر منه أجدادهم قبل مئات السنين، لكنهم ظلوا الأوفياء لها.

     بأكثر من 100 كلم يبعد بحر الفاو عن برِّ البصرة، وبمثل المسافة هذه يبعد بحرُ أم قصر عنها، لكنَّ الرطوبة ورائحة ألواح السفن ورائحة زيت محركاتها وزفرة السمك في عنابرها وصيحات البحارة وألوان أشرعتهم هناك تدخل بيوت المدينة كلها، كلما هبّت الريح شرقية من جهة الخليج، وكل ما يتضايق الناس منه يخففه الرطب البرحي، وتبرره وفرةُ السمك، وترادف الطعوم في أنواعه، التي تبلغ ذروتها في أشهر الصيف الأخيرة. بل، وما يعاني منه سكان المدينة من حر ورطوبة وملوحة أيضاً يفرحُ به أهل ابي الخصيب، الذين لا ينضج تمرهم إلا في الأيام الحارة الرطبة القائضة هذه، ولا ترتفع أسعاره إلا والدنيا شمسٌ متعامدة على الرؤوس.

  لا تشبه البصرة مدينة عراقية أخرى، ولا يمكن مقارنتها بأيِّ مدينة على الخليج، فلا بحر لأحد من العراقيين سوى الذي في البصرة، ولا مدٌّ ولا جزر إلا في أنهارها الألف، ولن يكون البرحيُّ المقلوع من بساتينهم، المغروس في غيرها رُطباً، تمراً، عسلاً هناك مهما بالغ زارعوه في غير أرضهم بوصف حلاوته، ولن يبلغوا به نصف حلاوته التي هنا، مهما عَذُبَ الماءُ وطابت الريح وتفنن غارسوه في ريّه ورعايته والاهتمام به، فالماء المالح والرطوبة والحرُّ والشمس المتعامدة سرٌّ من أسرار نضجه وطيبة طعمه، واكتمالُ أفلاكه التي جلبت لأهله حلاوة اللسان وطيب الَّنفّس، وسماحة الروح وزينة الأهاب.

لا تشبه البصرة مدينة عراقية أخرى، ولا يمكن مقارنتها بأيِّ مدينة على الخليج، فلا بحر لأحد من العراقيين سوى الذي في البصرة، ولا مدٌّ ولا جزر إلا في أنهارها الألف، ولن يكون البرحيُّ المقلوع من بساتينهم، المغروس في غيرها رُطباً، تمراً، عسلاً هناك مهما بالغ زارعوه في غير أرضهم بوصف حلاوته،

  قبل عقد من الزمان كنتُ مدعواً الى مهرجان الجنادرية بالمملكة العربية السعودية ومن اشتراطات ضيافتهم هناك تقديم نوع من التمر بعد القهوة، تمرٌ اسمه (اخلاص) نوعٌ يشفُّ مثلما البلور، يُشبه في شكله البرحي البصري، طيّبٌ ومذاقه حلوٌ لكنهم –الأصدقاء- في السعودية يعترفون بأنه لا يبلغ نصف طعم البرحي الذي لدينا في البصرة، يقولون بان ماء شط العرب واحد من أسراره، والبصريون يشترون السمك المستورد من إيران ودول الخليج وغيرها، حين يشح السمك في بحرهم الضيق البعيد، ويشترون الطماطة والخيار والخضار مما تنتجه بساتين أهلينا في الحلة وكربلاء وسامراء لأنها تشح في بعض مواسمهم هنا، لكنهم يُجمعون على أن الذي يغرس ويزرع في أرضهم ويسقى من مائهم وتحرقه شمسهم لا يمكن مقارنته بأي مما يزرع بأرضين الناس، كل الناس، هناك عشق لكل ما هو بصريّ، حتى الرطوبة وملوحة الماء والشمس المحرقة لها طعم أخروي، فردوسيٌّ لديهم، هناك عشق للإذلال الذي لا تفتأ الطبيعة تجود به.

  روائح كثيرة كان لا يستطيبها أحدٌ من غير البصريين، مثل رائحة دهان السفن والمهيلات الخشب، سفن صيد الأسماك ومهيلات نقل التمر والفاكهة والخضار ولمن مرَّ سائحاً على كورنيش شط العرب، عند نقطة التقاء نهر العشار بالشط العظيم، قرب سوق الجملة (العِشْر) المقابل لمبنى شركة التمور العراقية-هي أثر بعد عين الآن- في مثل الأيام هذه، قبل نحو من الأربعين سنة سيتذكر الرائحة تلك، رائحة الخشب المطلي بزيت كبد الحوت، (الكوسج) كان أبي يسمّيه بـ(السَّيرج) لعله لا يتذكر معنى عربياً له ، هناك سحر كامن في الرائحة تلك، هي مزيج من رائحة عفن خشب نديان، رطْب، قلبته طويلاً أكفُّ الأمواج، وهي مزيج من رائحة ملح فطير لما ينضج بعد، أصدافٌ وقواقعُ علقت بالبدن المغزلي الطافح، علقت به عبر تردادها في الأزمنة، عبر تحولها في المد والجزر، أشنات شواطئ فسيحة امتدت من رأس البيشة (محنتيني) حتى جسر الخندق ونهران عمران صعوداً إلى حيث يلتقي الدجلتان، رائحة زمن عبقري مضى، رائحة ملاحين مهرة جابوا البحار والأنهار، وتطلعوا عميقاً في الظلال.

  لكل مدينة هوية، تعرف بها، والبصرة عبر التاريخ مدينة حارّة، رطبٌ هاؤها، قريبة من البحر، وأعلى من مستواه بأقل من مترين، ومدينة نفط كثير وكثير جداً.. لكنها قبل ذلك كله مدينة نخل وأنهار وبحر وصحراء وأثل وجسور وباصات خشب، وخشابة، ومزارع بصل وطماطم وباميا ديره ووو والمسؤولون فيها عليهم إعادتها الى ما كانت عليه، أو إعادة بعض ما كان لها، في أقل تقدير، وإلا فهم مقصرون بحقها، وإن فعلوا لها الاعاجيب.

لكل مدينة هوية، تعرف بها، والبصرة عبر التاريخ مدينة حارّة، رطبٌ هاؤها، قريبة من البحر، وأعلى من مستواه بأقل من مترين، ومدينة نفط كثير وكثير جداً.. لكنها قبل ذلك كله مدينة نخل وأنهار وبحر وصحراء وأثل وجسور وباصات خشب، وخشابة، ومزارع بصل وطماطم وباميا ديره ووو والمسؤولون فيها عليهم إعادتها الى ما كانت عليه، أو إعادة بعض ما كان لها، في أقل تقدير، وإلا فهم مقصرون بحقها، وإن فعلوا لها الاعاجيب.

مواضيع ذات صلة

العمليات المشتركة: لجنة عسكرية فحصت جميع الموانئ وثبت خلوها من أي مواد شديدة الانفجار

معجزة الأصفرين

الأمن الوطني لـ “مرفأ”: لا يوجد مواد كيميائية داخل الموانئ حالياً.. إجراءات إخراجها سريعة جداً

النقل النيابية ترد على الحسيني: موانئ العراق آمنة.. الفاو قيد الإنشاء وخال من أي مستودعات

آخرُ الرفضة

تعالوا نعيش الحياة