كما تضيعُ أغنيةٌ   

طالب عبد العزيز

    أنا من جيل العراقيين المخضرمين، فقد ولدتُ مع مَن ولد منتصف خمسينات القرن الماضي، أي نهاية الحكم الملكي، وشهدتُ وإيّاهم قيامة الحكومات، التي تعاقبت، بدءًا من جمهورية عبد الكريم قاسم وحتى جمهورية اليوم، وبذلك نكون الأمناء على حقبٍ وتحولاتٍ عديدة، وانقلابات سياسيّة وحياتيّة واقتصادية واجتماعية، تباينت مستوياتها بين الرغد في العيش تارةً، والضنك فيه أخرى، وبين أطيب رغيف خبز وأكدر قدح ماء،  وألذِّ كوب حليب ما زالت خطوطه بيضاء على شفاهنا وأمرِّ كأسٍ مرارة وذلٍّ أجبرنا على تجرعه، أو ما زلنا نتجرعه إلى اليوم. 

 ولأنني ابن طين ديف بحلفاء وقصب، ومولود الماء والنخل والأفياء والسموات الزرق فسيحق لي استحضار الزمن، ببطئه الجميل الأول وانسيابه المائي فيما بعد، ثم سرعته القصوى، التي تستنزفنا ساعاتُها الآن، دونما أسباب ونتائج، ولو سئلنا عن المحاسن لأكتفينا بإيماءة بسيطة، لكنْ، لو سئلنا عن العيوب والندوب التي خلفتها على أجسادنا لما وسعتنا الأوراق تسميةً وتبويباً، ولا نجدُ جديداً في قولنا:” إنَّ ما شهدناه كان مفزعاً”. ولعل صورة العائلة المالكة ممزقةً بالرصاص موصولة بالمذياع والبيان الأول، ومن ثم صورة الزعيم ورهطه على الكراسي ممزقين بالرصاص أيضاً في التلفزيون، وتوالي عروض الصور ممزقة على الأعواد وبالرصاص في هواتفنا الذكية الى اليوم قمين باختفاء المباهج وخروج المحاسن من حياتنا.

   ربما تكون الصور هذه صوراً عامةً، ذلك لأنه انتاجُ وقائعٍ بلاد يضطرب فيها كلُّ شيء، ويشترك الجميع بأهوالها، وربما بدت بوقع أقلَّ إذا عُيّرتْ بميزان تفرقّها بين الناس، حيث ستكون حصتنا منها متساويةً، وعلى وفق استيعابنا مجتمعين لها، لكنْ، ماذا عمّا هو شخصيّ وخاصّ، ولا يشاركنا أحد فيه؟

    ربما تكون الصور هذه صوراً عامةً، ذلك لأنه انتاجُ وقائعٍ بلاد يضطرب فيها كلُّ شيء، ويشترك الجميع بأهوالها، وربما بدت بوقع أقلَّ إذا عُيّرتْ بميزان تفرقّها بين الناس، حيث ستكون حصتنا منها متساويةً، وعلى وفق استيعابنا مجتمعين لها، لكنْ، ماذا عمّا هو شخصيّ وخاصّ، ولا يشاركنا أحد فيه؟ أعني حياتنا الخاصة، التي كونتنا، وخلقت منا انساننا المحدود، بين الرأس والقدم، وقد تساقطت كِسَفُ الأهوالِ والصعابِ عليه، ولم تمهله تقطيعاً طوال عقود سبعة. ولكي لا أذهب في التعميم وأقع في الكليات فسأكتفي بالجسد المنهوب، جسدي الذي مازلتُ فيه، أدرأُ عنه وأتقي به.  

 في البارت الأول من المقالة هذه كنتُ أريدُ الكتابةَ عن أبي الخصيب، المكان الأحبّ عندي، وعن عدد الأنهار التي قفزتها طفلاً لاعباً، ومن ثم عنها (الأنهار) التي اضطررتُ لقفزها هارباً من رجال الأمن، وعن كتب الماركسية –اللينينة التي أودعتها الأرض ذات ليلة، ثم أنسيتها، أو عن شكل المسدس الذي تحسسته خلف أذني قبل نحو من خمسين سنة، لكنني شغلتُ بهذه وتلك، كيف لا وحياة المخضرمين ممتدة في الزمن والمكان، والحروب اليومية والسنوية تركض في أقدامنا، وكلُّ ما كان ممكناً صارَ في طامورة الفقد والنسيان؟ لهذا، سأندب شيئاً مما يعنُّ عليَّ الآن، شيئاً بسيطاً، وساذجاً ربما، سأندبُ صوتَ ماكنة السقي في بستاننا، أستخلصُ من سباخ الوجد الغبيِّ هذا صدى التكتكات البطيئة، مفردات اللغة الغامضة وحوار عشرات التروس والعوادم، التي كانت مادة الأفق الممتد من النخل الى النخل والماء. 

 ألم أقل لكم بأنني مولود الماء والنخل والأفياء والسماوات الزرق؟ وبمَ يؤثث حياته من كانت ضالته الأصداء تلك؟ كنتُ أصحو على صوت مرسل كهذا لكنه ناءٍ، ممهور بطغراء لا يكشف الفضاء وجهة له، يعلو وينخفض بحسب مشيئة الفجر، فما أعرف له مساراً، وربما تناهبته جهات النخل الاربع، أو ابتلعته مئات الجداول، التي جاءها الماءُ، بميعاده المعلوم، في دورة الاقمار والشموس، لكنَّ الأذنَ سريعاً ما تستجيبُ للنداء المتقطع ذاك بنداءات أخر، ففي كل جهة هناك أكثر من ماكنة تدور، وسيمتلئُ الافقُ بدوران عشرات التروس ونفثات عشرات العوادم، وسيدوي صوت الماء منزوعاً من الترع والجداول، ليسير ، لا يلوي عنقاً، قاصداً الأعالي، حيث الكوى الظامئة البعيدة، وستكبرُ التكتكات، و تستحيلُ طبولاً ودرابك حديد.. وسيهبُّ الناسُ من كلِّ فجٍّ مالئين الأرض بكل ما لم يعد قائماً اليوم. 

 في الصباحات وفي المساءات أحياناً يأتي رجلٌ، أتعبته طرائدُ صغيرة، همُّهُ الصيد، يلقي صنارته في النهر، بغية سمكة تمسك بخيطه، فيما الشمسُ ماتزال تزاور جسده، والصمتُ يرينُ، لكنه يطلب من صاحبه أنْ يجعل تروس ماكنته تدور، فيقول له:” أطْربنا” ما كنتُ أعرفُ أنَّ نغماً سيصدرُ عن الدوران ذاك، أغنيةً يعرفها هو ستصدح في غابة النخل والأنهار، فيعملُ الصاحبُ عتلته بالماكنة، وتدور دورة بطيئة صغيرة أولى، تنفثُ عنها دخاناً قليلاً، وتعقبها ثانية أسرع وأكبر ثم ثالثة ورابعة وخامسة ومئة والف ويختفي صوتُ الرجلُ والصاحبُ وصوتي أيضاً، فنظلُّ مصغين، مرددين مع الماكنة كلَّ ما حفظناه من أناشيد المدرسة قبل مجيئ الجمهوريات وتوالي الرصاص على الملوك والزعماء.

مواضيع ذات صلة

استرجاع: لغةُ الإشارة.. لغةُ الكلام

يوم “حزين” في البصرة.. ثلاثة حوادث مختلفة تودي بحياة سبعة أشخاص

عطبٌ “يغيّب” الكهرباء عن أهالي حي المهندسين في القبلة

غير مسؤولين عن الخلل.. شركة النرجس “تتبرأ” من عطل أدى لقطع الكهرباء في مناطق جنوب البصرة

تخص الألغام والمقذوفات.. مكتب حقوق الإنسان في البصرة يقدّم 4 مطالب لمجلس المحافظة

صورة البصرة التي نريد