علي وجيه
شقَّ البلمُ الصغيرُ المياه، وانتشر الرذاذُ على وجوهنا طيلةَ ساعة ونصف، ونحن متّجهون من كورنيش البصرة، إلى المغامرة العجيبة التي أقدمَ عليها تشكيليّ وأكاديميّ بصريّ د.ناصر سماري، الذي افتتحَ كَاليري محترفاً في منطقةٍ بعيدة عن مركز البصرة، في “كَرمة علي”، شمال البصرة.
ولعلّ أبرز مغامرة هي كسرُ الصورة النمطيّة عن تلك المناطق، التي لا تحضرُ في الإعلام إلاّ بوصفها مناطق النِزاع العشائريّ، والرصاص المُتتالي، المُصوَّر من قبل مدوّن خائف في الليل.
البلمُ أسندَ وجهه إلى الرمل، ونزلنا، ووجدنا سماري وقد جمع ضيوف المربد كلّهم، بكرمٍ كبير، قال أحد الأصدقاء ضاحكاً وهو يرى سماري مُقدّماً مئات من الأسماك المشوية “يبدو أن د.ناصر قام بشواء شطّ كامل”.
تدخلُ لمنطقة سماري، عبر “بوّابة أهوار البصرة” التي تستقبلكَ أمام النهر، وسماري عاشقٌ لمنطقته، وفي هذا الحيّز الممنوح له، يحاول دوماً كسر المتوقع.
ببناء كبير، وأناقة مُلاحَظة، وعناية بالإضاءة، جمعَ سماري عدداً من زملائه الفنّانين المُحترفين البارزين عربياً وعراقياً: د.فاخر محمّد، د.مكي عمران، د.محمود شبّر، أحمد البحراني، د.ياسين وامي، عقيل خريف، د.عاصم عبد الأمير، د.قيس عيسى، ريما بحراني، وغيرهم بمعرضٍ تدشينيّ، فضلاً عن أعماله هو، المُنطلِقة من العمل على الكاليغراف بوصفه شكلاً.
لو أنّكَ سألتَ بغدادياً، افتتاحَ كَاليري في مركز بغداد، في الكرّادة مثلاً، لقالَ لك: سأفتتحُ مقهى، أو مطعماً، أو محلّاً مختصّاً بالموبايلات، فضلاً عن مغامرة غير محسوبة، فما زال المتلقي العراقي بالعموم واقعاً تحت تلك اللعنة التي أشارَ لها جواد سليم مرةً في بيانه الشهير “..والزمرة التي تتذوق الفن والتصوير من جمهورنا تفرض إرادتها عليك بصورة عجيبة (هذا كلش مو زين، لازم تسوون فد شي تفتهمه الناس)، هؤلاء يريدوننا أن نرسم تفاحة و نكتب تحتها (تفاحة)، (إي هاي تفاحة، تماماً تفاحة)، ومنظر الغروب على دجلة وتحتها (الغروب) أو صورة نخيل وتحتها (نخيل) أو فتاة جميلة، ويجب أن تكون جميلة لأن الفن جميل ونكتب تحتها بخط جميل (الانتظار)”.
مغامرةُ سماري هي مغامرة اقتصاديّة أولاً، وجمالية ثانياً، لكنها ستكسرُ كثيراً من قتامة المشهد، تقابلُها مغامرة أخرى في مركز البصرة وهي “كَاليري حامد سعيد”، بينما يستعدُّ د.قيس عيسى لإنشاء كَاليري خاص أيضاً، لتستحقّ البصرة فضاءً بَصَريّاً يليقُ بها، بوتيرةٍ تتصاعدُ بشكلٍ أكثر حتى من بغداد، بالنسبة والتناسب بعدد الكَاليريهات المفتوحة.
يدرّسُ سماري في أكاديمية الفنون الجميلة – البصرة، صباحاً، ويكون في الكَاليري عصراً، ويرسمُ في الليل، بوفاءٍ لا نظيرَ له: للفن، ولمنطقته، ولمدينته، دون أن ينتظرَ دعماً من أحد، وهذا الاندكاك بالفن، وبالإيمان به، هو ما يصنعُ التغييرات، التي قد تكون فرديّة، وحادّة قاصمة، لكنها ستشجّعُ مغامرين آخرين، يُضيئونَ تلك المنطقة أو هذه.
بوركَ د.ناصر سماري، المدنُ لا تحيا إلاّ بأبنائها المُحبّين، وأن شمال البصرة سيحضر في الذهن بأنها “تلك المناطق التي فيها كَاليري سماري، وأحياناً بعض النزاعات العشائرية”، مُستقبلاً.