طالب عبد العزيز
يوصي أساتذةُ الإعلام طلبتَهم في الصحافة بعدم الثقة بالمسؤول الحكومي، وترك المسافة الممكنة بينه والصدق، لأنه يريد أن يظهر بمظهر المخلص والناجح دائماً، ولأنه يعتقد بأنَّ الصحافة هي طريقه الأمثل لإقناع الناس، مثلما يعتقد بتأثيرها على المتلقي، فضلاً عن امكانيتها في تقديم المسؤول بالصورة الابهى، بعيداً عن الحقائق أحياناً.
ولعل الوقائع تشير الى أكثر من مسؤول عراقيٍّ كان تحدث في الصحافة عن مشاريعه فطارت الفيلة، وناطحت منجزاته السماء، لكنَّ الحقيقة ألّا شيء من ذلك على الأرض، وكل ما قام به هو أنه استطاع وعبر وسائط الإعلام وقنوات التواصل التي تنشر صوره وأقواله فأمسى بين ليلة وضحاها واحداً من أشهر المسؤولين، الحريصين على سمعة البلاد، والمفكرين بنقلتها النوعية في الإعمار والاستثمار لكن، حين تنقضي فترة حكمه وتتكشف الأوراق والوثائق لا نجد لأفعاله تلك شيئاً، والامثلة كثيرة، والاسماء أكثر.
نصاب بالذهول حين نتصفح الصحف والمجلات والقراطيس والمقاطع التلفزيونية التي نحتفظ بها منذ العام 2004 الى اليوم وهي تحدثت عن بناء المستشفيات والمدارس والأسواق والمصانع والطرق والجسور والمئات من أسطوانات الحجر الأساس وغيرها، ولو أوقفنا كبار المسؤولين على ما تحدثوا عنه وبشَّروا به وأشاروا اليه ثم طالبناهم بما أنجز وتحقق، وبالأموال التي أهدرت، لما اكتفت الحبال بالدوران على رقابهم، ولكانت السجون العميقة أهونَ المنازل لأجسادهم، ولو أنعم الصحفيون والإعلاميون بجريمة ما كتبوا وصوروا ونشروا لكانت البرهان على خيانتهم شرف الكلمة، والدليل على تبرير الخيانة لصالح هؤلاء، الذين أفسدوا في البلاد، وأهدروا المال، ولم يحفظوا الأمانة التي أُؤتمنوا عليها.
لو تحقق ما نسبته 25% مما تحدث به الوزراء والوكلاء والمدراء العامون من مشاريع لكان العراق اليوم واحداً من أعاظم بلدان الشرق الاوسط، لكننا، وبعد ربع قرن من الزمان نجدها بلا مطارات حقيقية، ولا موانئ كالتي نحلم بها، ولا طرق خارجية آمنة لحياتنا، ولا زراعة تحمينا من الجوع، ولا صناعة وطنية، ولا تجارة مشروعة. نحن في بلاد هي الأفشل في مشاريع الصحة والتعليم والخدمات.. ولدينا قطاع عريض، حاكم ومتحّكم، وله عظيم القدرات على فعل ما يريد، أنتج اِنساناً آخر، غير العراقي الذي نعرفه. بيننا ناسٌ مأزومونَ، وضحايا سنوات من الجهل، مشكوكٌ في ولائهم، جاهزونَ لأيِّ أنواع الخيانة (الضمير، الدين، الوطن، الإنسانية) لا يجارى واحدهم في حديث الوطنية، لكنه لصٌّ، ولا يطاله أحدٌ في حديث الدين والفقه والعبادات لكنه فاسدٌ، وبين الثنائيات هذه هناك الآلاف.
إذا كانت المخاوف من انهيار الدول تكمن في فساد القضاء، بوصفه آخر الحلقات التي تؤذن بنهاية الأنظمة، فأنَّ فساد الإعلام اليوم هو الخطر الثاني إنْ لم يكن الأوّل، الذي يؤذن بنهايتها، ذلكَ لأنّه الوحيد القادرُ على تلميع صورة القضاء أيضاً، وما تفعله بعضُ وسائل الإعلام لدينا مؤشَرٌ عند الشعب، ولا يقلُّ خطورةً عن جرائم الفساد والخيانة وتهريب الأموال وغيرها. كان أدونيس الشاعر قد قال في أحداث اجتياح الجيش الصهيوني للبنان سنة 1982 بعد أنْ ضامه هوانُ المشهد العربي أمام وحشية اسرائيل:” لو أنَّ الصحفيين والإعلاميين والكتاب في الوطن توقفوا يوماً واحداً عن الكتابة لرأينا كيف تتهاوى الأنظمة العربية” .