“الجنّة والنار”.. حين تكتبُ الجماعةُ قصتها

علي وجيه

بالإمكان، بالنسبةِ لي، الكتابةُ عن مسلسل “الجنّة والنار”، حتى وإن بُثّ منه لحد الآن حلقات معدودة، فالأمرُ لا يعنيني من حيث القصّة، ولا الحبكة، ولا الملاحظات الفنّية، في بلدٍ متلكئٍ أصلاً فيما يخصّ السينما والدراما، ويتعثّر باستمرار، وإن تميَّزَ بنواحٍ فنّية عن ما رأيناه من أعمال سابقة.
بالإمكان كذلك، لأنّ “الجنة والنار”، بإمضاء مصطفى الركابي، وصحبِهِ من فنّيين وممثلين ورواة، نحى منحىً آخر في التجسيد الدراميّ، مُنطلقاً من مدرسة واقعيّة عراقيّة، لشدّ ما افتقدناها، منذ طفولتنا، أو الأعمال الدرامية التي شاهدناها بأثر رجعيّ، أو التي نشاهدها.
الجماعة الشيعية، الجنوبيّة، لم تروِ قصّتها أبداً، كما تريد، المركزيّة الإعلاميّة والدرامية التي تعاطت مع هذه الجماعة المُعارِضة دوماً، والتي خرجتْ من بين يديها أعمالٌ أبسطُ ما فيها تزويرٌ للتأريخ، أو بالأقل، نقل ما يُرادُ للسلطة من مخيالٍ ضدّ هذه الجماعة، بالتزوير أو السلب.
صورةُ الجنوبيّ لم تكن فقط بسلب مناقبه، طيلة أعمال كثيرة أُنتجت في حقبٍ مختلفة، لكنها أيضاً قدّمته بطريقةٍ مضحكة، لعلّ أبرزها كان العمل المسيء “بيت الطين” الذي قدّم الجنوبيّ بطريقة سطحية، وكانت فيها حتى اللهجة ملمحاً للتنمّر ضد هذه الجماعة، مع غياب مُتقصِّد لكل مكونات المجتمع الأخرى بوصفها عناصر مضحكة، فلم نرَ كرديّاً في عملٍ دراميّ عراقيّ وهو ساذج، لا ولا السنّي أو التركمانيّ وغير ذلك.
يقدّم مصطفى الركابي، وورشة الكتابة، مقطعاً طبيعياً، عفوياً، يشبه تماماً المناطق الجنوبيّة، من مكان تصوير أولاً، ولهجة، وملابس، ومشاكل، وأطباع، بكل ما في الشخصيّة الجنوبية من تناقضات وعنف وخير وشر، وهو غير مُطالب أن يُظهرَ ملائكيّة هذه الشخصيّة مثلاً، بقدر ما أن يظهرها بشكلٍ طبيعيّ، فالنساءُ المتحلّقات على سرير المريض، مع الخوف و”الدردمة” هنّ يشبهن نساءنا، والصراعات العائليّة والغضب يشبه غضبنا، والوجوه وجوهنا، وصورة عليّ (ع) في الدكاكين صورتنا ودكاكيكنا، هي مقطع عرضيّ جنوبيّ، بلا تزويق، ولا تقبيح.
إن الجماعة بدأت أخيراً بسرد قصّتها، قد لا تبدو قصّةً مركزية، فهي ليست ملحمة، ولا يكتبُ الركابي وصحبُهُ التأريخ الجنوبيّ درامياً، وإن كان ذلك يحتاجه الجنوب بشكلٍ واضح وجليّ، لكنها بداية، لمدرسة واقعيّة عراقية، تقتطعُ المشهد بسلبياته وإيجابياته من جهة، بل وحتى الضجيج وحديث الممثلين المتداخل كان إفراطاً ممتازاً بهذه الواقعية، بعيداً عن الملامح واللهجات والأحداث والأسماء التي لا تشبه الجنوب من جهة، وبعضها لا يُشبِه أي قطعة عراقية.
ما يُمكنُ ملاحظته في العقدين الأخيرين، أنّ بعد انتقال مركزيّة الإنتاج الدراميّ من السلطة الديكتاتورية، إلى تيارات سياسية بالغالب كانت مقربةً من الديكتاتور ودوائره، جعلت الكاتب الدراميّ، والممثل، يكتبون – بطريقة الحثّ الفيزيائيّة – كما يريده المنتج وصاحب القناة، ولو عدنا للذاكرة، لَما رأينا جنوبياً محترماً في أعمالهم الدرامية، ودوماً هو الساذج، المُضحك، المضحوك عليه، ذو اللهجة المثيرة للاشمئزاز، والسلوكيات السيئة.
أخيراً، بدأت الجماعة بسرد قصصها، كما هي، بعيوبها ومناقبها، بوجوهها ظالمة ومظلومة، بشتائمها وبكائها، بشوارعها المتربة، ومخيالها العجيب، فبوركَ مصطفى الركابي، وبورك صحبه والمغامرة، وبانتظار أن يتحوّل الركابي الى ظاهرة، داخل الجماعة الشيعية الجنوبية، كي تكتب كلّ قصصها، كما هي، بعيداً عن سرديات “شكيب” و”نَماء” والمكان الجغرافي الذي لا علاقة له بالعراق، واللهجة التي لا تشبه لهجة أي أحد، ربما عدا لهجة الفنان كاظم الساهر.

مواضيع ذات صلة

منتسبون عبر “مرفأ”: إجازاتنا مُغتصبة بكل مناسبة.. ولم نحصل على أي امتيازات

بـ٥٠ خطأً إملائياً ولغويّاً.. قصر “الثقافة والفنون” يناشد السوداني

العامري يحشّد أهالي البصرة للتعداد: سيُزيد فرص التعيين والرعاية والخدمات

لا أحد على رملة الفاو 

“ضغطة الزر المهمّة”.. ماذا يعني افتتاح الأرصفة الخمسة في ميناء الفاو؟

البصرة تنجز وعدها.. “مرفأ” تنشر ملخصاً لافتتاح الأرصفة الخمسة في ميناء الفاو