هل نحن إزاء ظاهرة فنيّة؟
وارث كويش
نعرف جيداً أن عناصر الصناعة كلها، في السينما والدراما، تُستخدم لتكريس الاحساس لدى المشاهد، تعلمنا ودرسنا أن اللقطة القريبة تجعلك قريباً من الشخصية، والمؤثرات تساهم بإحساس المشاهد بما يريده المخرج أو ما يريد أن يُمليه عليك درامياً، وكل ما يمكن أن يُستخدم هو لتعزيز الاحساس الدرامي لهذا المشهد أو تلك الشخصية عند المشاهد، هذا هو التحدي الأكبر للمخرجين، للصُنّاع، ولذلك تستخدم أحدث التقنيات في الصناعة الحديثة لالتقاط التفاصيل، وتصرف مبالغ كبيرة، وفي النهاية يفشل المنتج والصانع بملامسة احساس المشاهد، المتلقي الأكثر أهمية لكل النتاج البصري، الزبون الوحيد المستفيد من هذه السلعة المسماة: المتعة البصرية، مهما كانت هذه المتعة، هل أن تتوفر عدة معطيات في العمل الفني، كلها يجب أن تؤدّي مهمة الفن، مهمة الدراما، المتعة التي تأتي من صدق المشاعر والاحاسيس، أن تكون جزءاً من كل مشهد، تعرف خبايا كل الشخصيات، أن تعرف البطل ومساعده، أن تفهم المدخل للقصة وتتعلق بالشخصيات، أن يكون صراع الخير والشر واضحاً، وتعرف الخير ونقيضه من الربع الأول للعمل الفنيّ، سواء الدراما أو السينما.
العمل الدرامي ” ذي قار ترحب بكم” قدم لنا جوهر الصناعة الأهم: الاحساس الدرامي بكل العناصر التي في الجزء الأول، وهي عناصر تشبهني كمشاهد، أريدها أن تتوفر في العمل الفني، أريد لنفسي وعائلتي أن ننتظر المشهد القادم ونقتنع بالحوار وننتمي لبيئة المشهد والصانع، نشعر أن هذا الكلام كلامنا وهذه بيئتنا والصراع الذي يدور هو صراعنا، هذه ثقافتنا وهذا احساسنا، عزاؤنا وراياتنا، ملابسنا واسمائنا، هذه كلها مجتمعة في عمل درامي واحد، يحمل تفاصيل صغيرة هي ما يؤثر على المشاهد ويتواصل معه بشكل صحيح، يرسم احساساً درامياً مذهلاً يتغلغل الى مشاعرك كموسيقى هادئة لا تعرف سبب زرعها السكينة في داخل الروح، هكذا “ذي قار ترحب بكم”، عمل درامي يزرع بك الثقة أن هناك مجموعة أصرت أن تنفذ ما يشبهها، بلا املاءات، بلا معدات كبيرة وسيارات جرارة وتكون النتيجة خاوية، مجموعة آمنت بالكلمة والاحساس، بالواقعية التي تفصلها عن مقاطع التيكتوك “شعراية” لا تشاهدها عين مجرد، يشاهدها فنان ويلمحها بورق رصين وعدسة يعرف جيداً كيف يضبط وضوحها.
دائماً ما كنا نعيب على الدراما، أغلب الأعمال الدرامية العراقية، انها لا تشبهنا، تحاول ان تستورد لنا طباعاً من خارج الحدود، وصل الأمر بالتنفيذ الفني الذي حاول أن يكون نسخة عن مسلسلات تركية، لا بأس بهذا، لكننا نعيب على هذا كله أن لا شيء فيها عراقي، لا مسلسل عراقي يشبه هويتنا ونحن الذين نسعى دائماً، ثقافياً، أن نبني هوية بصرية لأعمالنا الفنية، في السينما والدراما، هوية تشبه أمهاتنا وعوائلنا، تشبه مشاكلنا الداخلية، هوية تشبها وتمثلنا، أن يكون العمل عراقياً، حتى إن كان عملاً سيئاً لكنه يجب أن يكون عراقياً وهذا ما يجعل المشاهد مشدوداً الى العمل، وإن كان هناك ضعف فني، لكن العمل يحمل هوية عراقية، “ذي قار ترحب بكم”، عمل عراقي بهوية عراقية خالصة، اعتمد الهوية أكثر من المعدات الفنية الحديثة، تعمّد المخرج مصطفى ستار الركابي أن يكون عيناً ساحرة، مجردة، تتابع ما يحدث وترويه، لم يكن هناك ضعف فني ( سوى الصوت الذي اعتقد أنه خلل في البث وليس في العمل نفسه ) حتى هذا الصوت المتداخل في أغلب المشاهد هو هوية عراقية بامتياز، الجميع يتحدث بوقت واحد، “ذي قار ترحب بكم”، دراما عراقية تؤسّس لهوية عراقية، دراما عراقية تعرف جيداً أن علينا العمل كثيراً على التلقائية في الاداء، وكيف يكون الممثل أمام الكاميرا، العمل على الايقاع الفني، وأسباب فنية كثيرة في آخرها يكون مدى رقي المعدات وكثرتها، هكذا هو “ذي قار ترحب بكم”، عمل اهتم بالهوية على حساب المعدات، ونجح.
إن ما يميز “ذي قار ترحب بكم”، هو الصدق، إذ تعمد فريق العمل أن تكون رؤيتهم الفنية هي العين التي تتحول وتكون شاهداً، أن تشاهد الكاميرا كل نزاعاتنا، أفراحنا، يومياتنا، وتلتقط كل الحوارات التي يقولها الجميع بآن واحد، وتسمع، مثلما هي الحقيقة، صوتاً واحداً وتتساقط الأصوات الأخرى، الكاميرا هي الأخرى تتجول مثلما عين انسان، ربما الراوي، أو المخرج نفسه ابن مدينة الناصرية وهو يتجول بين أهله وأصدقائه، يعرف حكاياتهم جيداً، الكاميرا في “ذي قار ترحب بكم” هي نحن، المشاهدين الذي يعرفون كل هذا أو يتعرفون عليه، الشروكية أو غيرهم، من عرفوا هذه الحياة ودواوينها، مشاكلها وفصولها، هذه هويتنا، وعلى أحدهم أن يصحح للجميع، أن يقول بصدق كيف يتكلم الشروكية، وكيف للغترة والعكال والخاجية مكانة حتى لو بعد سنوات، مثلما فعل فرج، أو أن يعرف الجميع أن لا ذل مقبول ولا مهانة ولا كسر خشوم، مثلما فعل حيدر مع فرج حتى وإن كان عنه. الصدق هو ما يميز هذه الدراما لذلك كل هذا الاحساس قد وصل، كل تلك المشاعر وصلت، بعيداً عن كل التحليلات الفنية الجاهزة، النظريات الفنية التي يطلقها النقاد، كل هذا غير مهم برأيي، انا مشاهد، استمتع كثيراً بالصدق العالي، الهوية والوثيقة التي اشتغل عليه فريق “ذي قار ترحب بكم”.
ثلاث حلقات فقط كفيلة أن تقول لنا، نحن أمام هويّة دراميّة عراقيّة، نحن أمام هوية جديدة في الصناعة، مصطفى الركابي، منذ سنوات، دعا لهذه الصناعة ومنافسة القنوات التلفزيونية بالصناعة نفسها، بالحقيقة فقط، بتأسيس الهوية، الآن ينجح الركابي ومن معه، نحن أمام حركة فنية جديدة، حيث لا أحد من الممثلين سيقول “اقتلني” في ذي قار ترحب بكم.