أصفادُ الذكرى بخزائن القلب

طالب عبد العزيز  

على خاصرة النهر ما يكفي من الوعول، وفي قماشة الحرير، التي تزيّنُ الطاولة أمامي، ما يجعل السماء بشجر وطير كثير. بقلبي من الحبِّ ما لو كتبته على شاهدة اليأس لتسوسن حديقة. في رعدةِ الجسد ما لا يتكسرُ بعناق واحد. الكثير من زجاجات العطر لا يعني أنَّ عصفوراً أزرق سيحط على النافذة، لكن، هناك من مازال يذهب الى الميضأة فلا يبصر فاء (الكهف) بيديه، ولا تنحشرُ روحُه نقطةً في (يسن) فأين أنت من ذلك كلّه؟

 خلف كوفان السعف، الذي يفصل الطريق عن الليل منزلٌ لم يكلف البنّاء جريداً كثيراً، يسكنه أحدُهم مع شقيق له أعمىً، كانَ يهتدي بأصابع قدمه الى قنطرة الجذوع، فيعبرها باسماً. سعيداً، بعبوره الآمن، ذاهباً وآيبا.  يحسبُ حميدٌ خطواته اليها، فلا تبْعد عنه، ولا يُخطئها. أما وقد مات، وألتهم الترابُ قنطرة الجذوع، وساق الماءُ صورته الى البحر، وانتقل شقيقه المبصرُ الى بليدة قرب الزبير، هناك، في الرملة التي لا يتأسف الخصيبيّون على مغادرتها. مازلت أجدُ في ما تفرّق من التراب تحت قدمه، ولم ينتم الى الشارع والاسفلت ظلالَ حميدٍ الأعمى، وهي تتشممُ القنطرة، تتأكد من خشونة الجذع، فلا تخطئه، قبل ذهابه الى مخبز التموين، تنظم طابور الجائعين قضبان الحديد. ساعتها سيكون ناصر ملّا على قد أكمل آذانه لصلاة الفجر، وهبط من المئذنة بغترة بيضاء، انتزعت من قماشة رضاه..  كان حميدٌ الأعمى ما زال لم يتعرف على لون تراب قبره بعد.

  لا تحمله على ظهرك، ولا تستعلم منه، عن جادّةٍ أنتَ آخذها الى النهار، من لم يرَ السماء في الليل، ذلك لأنه “لم يشعر بوقع النجوم على قلبه” هناك وردز وورث* واحد قال ذلك. لكنني، أحمِدُ صوتَ جهاز تبريد الغرفة الكريه على صوت بائع النواح، يتعثر بسرواله الأسود، عند الباب، وأرى بأنَّ بعض المسافرين على أجنحة السماء سيصلون سالمين، إذا كانت طائراتهم على وشك التحطم، وكل الاطفال الذين أومأوا لأمهاتهم في محطات القطار عادوا بالحلوى..  استلقي على الجانب هذا من السرير، لأنني انتظر من ستأتي، وتشغل الجانب الآخر منه، وهكذا مثلما تقول مارغريت دوراس عن الوحدة، لذا، سأقف قبالة المقهى، مثلما كنت أقف من قبل، أبيعُ نفسي للهواء الذي يعبرُ، ذلك لأنكِ ستعبرين الجسر الى متجر المظلات.

  في الحانة التي لا ينتهي الليل على طاولاتها، ولا ينقضي النهار، ولا تهشُّ الريحُ طائراً يتوسل الشمس سروراً.. يسبقني الى مقاعدها كلَّ مساءٍ عطرٌ نسائي، فأهتدي، كأنني أقود الطريق، هناك حيث ينفتح البحر على أغنية وحيدة، لا أحد ينسب كلماتها اليه، ولم يسمعها أحد. سأوهم نفسي بـأنني أجدك عند بابها، قميصك مفازة غياب، وسروالك خرقة أمل، وعيناك ذاهبتان، تبصران ما تحت المظلات من العناوين.. ها أنا، مازلت أتفادى قطرات الزيت المشتعلة، في عين الفرن الزرقاء، كلَّ صباح، أبحث عن ماكينة القهوة، التي أخفيتها عن أيدي الاطفال، تلك التي أهملتِ غُسلها البارحة.

   ترى، الى من سيترك أولئك المصورون أشرطةَ التصور السالبة (النيجاتيف) التي لا تبين ولا تُستعلم إلا بالضوء، والى كم ستبقى في أقبية خزائنهم التي يلفها الظلام الأبدي تلك الأرواحُ المسالمة، هذه الطمأنينة المغلفة بالابتسامات، الأيدي التي أوماتْ، واشتبكت طويلاً، العيون التي ما تزال تشعُّ ببريقها في العدسات، من يحمل عنها وزر الأزمنة، وهي تتعاقب بعيدةً، وهي تتسرب من شقوق الصناديق المظلمة، وعلب البلاستك، ورائحة الأحبار والسوائل اللزجة، وقد زلزلت الأرضَ انطباقةُ البابِ لآخر مرة، وغادر الى رملته البعيدة كارو، الارميني، يوم كانت واجهة مختبره الفوتوغرافي قبالة سينما أطلس، حيث لم يعد لوجودها معنى اليوم.   

   * ويليام وردزورث (1770 – 1850) شاعر رومانسي إنجليزي.

مواضيع ذات صلة

عن الأشياء التي تتهدم من حولنا 

الأردن تثمّن حملة الترحيب البصرية بالنشامى على أرض جذع النخلة

(استرجاع): إسرائيل وتابعها امريكا

رسالةٌ في الاشمئزاز

ثلاث عشرة ألف فرحة

ضرغام المالكي: وكيل وزارة يتقاضى 121 مليون دينار شهرياً