علي وجيه
يضربُ الطَّلْقُ أمّهاتِنا، فننجبسُ منهنَّ وهنَّ يصرخنَ “علي، علي، علي، يا داحي باب خيبر”، وقربهنّ جدّاتنا وهنّ يقلنَ بقلقٍ “أبو الحسن، يابو الحسن، سهِّلها يابو الحسن”.
نهبطُ، ونبكي، حتى نطمئنَّ بأحضان أمّهاتِنا المُنهَكات، إثرَ الولادة، ثم يحملُنا آباؤنا، يقبِّلُهُ الأقاربُ، وهم يقولون “يحفظه أبو الحسن إلك، وتفرح بأولاد أولاده”.
هذا السيناريو المُعتاد لكلّ أبنائِكَ تقريباً، لكنني، كنتُ مميّزاً أكثر..
يحملُني أبي، يكبّرُ في أذني اليُمنى، ويُقيم في اليسرى، ثمّ يضعُ إبهامَهُ على جبيني، ويمهرني باسمِكَ.
“علي، علاوي، أبو حسين، أبو الحسن، علوش..”، وكلّ تفرّعاتِها، كانتْ تصبُّ باسمِكَ الكريم، البسيط على الأطفال.
حتى اللحظة، أحبُّ لحظاتي، تلكَ حينَ ينطقُ طفلٌ اسمي، “عَيْ”، كانَ ينطقُ اسمَكَ، أيها السلِسُ مثل الماء.
حتى اللحظة، أحبُّ لحظاتي، تلكَ حينَ ينطقُ طفلٌ اسمي، “عَيْ”، كانَ ينطقُ اسمَكَ، أيها السلِسُ مثل الماء.
ونحنُ ننحشرُ في القِماط، الضيِّقِ، على صدورِنا ميداليّةُ سنّ الذئب، والعيون السبع الزرق، وفورَ فتحِ حبل القِماط، تخرجُ سواعدُنا الصغيرة، حتى يبينُ بياض إبطينا، في تلكَ اللحظة، نُبايِعُكَ.
نبايعُكَ، ونحن غارقون برائحة الحليب والباودر، أحسبُنا كذلك، ونحنُ نستمعُ دونَ فهمٍ، في مهودِنا، لمحاضرة الشيخ الوائليّ في تلك الظهيرة.
ننظرُ، ونراكَ في غرفةِ الجلوس، صورةً لوحدِكَ، بوجهِكِ الحجازيّ الجليل، ذي الأصول الكوفيّة، مُطمئنّين، ولا نُقسِمُ بكَ إلاّ للأمر الجلل، ونحنُ أطفال، فأنتَ أكبرُ فردٍ في الأسرة، فرقُكَ أنّكَ لا تأكلُ معنا، لكنّكَ تنظرُ لنا، مُراقِباً، تتفقّدنا، ونحن نجتمعُ على الصينية.
ثمّ نكتشفُ، أنَّ ثمَّةَ ما هو خارج البيت، وأن بيوت الجيران فيها صورتُكَ، قد تتنوّع، ثمّة أسد، ثمّة طفلان على حجريْكَ، ثمّة وجهُكَ مع ١١ شبيهاً لكَ، يتوزّعون على يمينكَ ويسارِكَ، ثمّ تكبرُ المسافة، ليكون يوم الخميس، مع أبنائكَ وبناتِكَ المكَاريد، في “مُنشِأة”، وهي تتهادى ببطء إلى “كربلا ونجف”.
حتى اللحظة، وأنا ممّن تشرَّبَ رؤيةَ القبّة، منذُ ابيضاضِها في لوحات العصر القاجاريّ إلى اصفرارِها في الفوتوغراف، لا أجيدُ فهم ولا وصف مشهد الانعطافِةِ إلى الشارع المؤدي لها، ثم التماعتِها في عينيّ، لكنني أذكرُ أننا كنّا ننظرُ الى القبّة، ونحنُ نتعجبُ، صغاراً، ثمّ ندخلُ مع آبائنا، يحملوننا مثل القطط الصغيرة، كي نقبّلَ الشبّاكَ الفضّي البارد، وإن كان ثمّة ازدحام، يمسحُ الأبُ على فضّتكَ، ثمّ يعيدُ كفّه الكريم الى وجوهنا وهو يُتمتمُ “اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد”.
حتى حين كنا نخرجُ، صغاراً، من الضريح، ارتبطتَ معنا بالحلوى، بالخبزِ المُداف بالسكّر، والدهين، و”حلاّل المشاكل” من زبيب وبيض حمام، نخرجُ من الضريح، حاملينَ عطرَكَ، ولطافةَ السجّاد على أقدامنا الغضّة، والثرّيات التي تتلألأ فوقَ رؤوسنا، وننامُ بالطريقِ عائدين لبغداد.
ثم أدخلُ المدرسة، كانت الأحرف ذات أسماء شوهاء، “حرف الإعْ” و”الإل” و”الإي”، لكنها كانت عيناً، تنفتحُ مثل باب كهفٍ آمن، ولاماً تمتدُّ مثل سيفٍ طويل، وياءً مثل سفينةِ محبّة، مَن ركبها نجا، ومَن تخلّفَ عنها غرق.
ما مضى يومٌ إلاّ وتلذّذتُ بكتابةِ اسمي، كلّما كتبتُهُ كنتُ أقتربُ منكَ أكثر.
ثمَّ نكبرُ، أكثرَ، نعرفُكَ أكثر، نرتطمُ ببلاغتِكَ، وفروسيّتكَ، وذلك الفيلم الطويل الذي تعرّضتَ لهُ وبنوك: من السيف إلى السمّ، ومن السبي إلى أزقة العلويين الخالية إلاّ من النساء والأطفال.
أذكرُ أنّ خالي حسن، قال لي: مَن هم الذين إن أحببناهم قُتِلنا؟ وإن أبغضناهم دخلنا النار؟ قلتُ له، بلسان الطفل: الإمام علي والإمام الحسين.
لكنكما لم تكونا الوحيدين، كان ثمّة ١٢ غيركما، وما يتفرّعُ منكما، مع نسائكم، ومحبّيكم، وعوائلكم.
ثم تخضرُّ شواربُنا، ونحبُّ، لا نجدُ ما نثبتُ حبّنا لهنّ سوى “أحبّج وعلي”، ثم نخافُ من سيطرات وهميّة، تودّ أن تعرفُ إن كنّا معكَ، أم معهم، ثمّ تنفجرُ المفخخة بالسوق، لأنَّ مكَاريدَكَ وصوركَ تملأ تلك الأسواق.
نحنُ نحبّكَ لأننا نحبّكَ، هي علاقةُ حب، بنوّة وأبوّة، لا شأنَ لها بما مضى للشيعة المتحدّثين عن المقام النورانيّ، ولا العصمة، والغيب الأصغر، لا شأن لها بجنّة ونار، لا شأن لها بخلافةٍ ووصيّةِ نبيّ، هو حُب، حبٌّ فحسب، ولا أحدَ يستطيعُ شرحَ حبّهِ بخوارزميّة منطقية.
نحن نحبّكَ يا أبانا، بعصمة وبدونها، بخلافة وبدونها، بسيفٍ وبدونه، ببلاغةٍ وبدونها، نحبّكَ فحسب، لا نحتاجُ عيداً لنحبّكَ، يكفي أن نقودَ سيّاراتنا، ونبتسم كلّما رأينا صورتَكَ على “توكتوك” مكَرود، وإن دخلنا دكّاناً، وكان يضعُ صورتكَ وراءه، كنّا نطمئنُ لبضاعتِهِ وابتسامته.
نحن نحبّكَ يا أبانا، بعصمة وبدونها، بخلافة وبدونها، بسيفٍ وبدونه، ببلاغةٍ وبدونها، نحبّكَ فحسب، لا نحتاجُ عيداً لنحبّكَ، يكفي أن نقودَ سيّاراتنا، ونبتسم كلّما رأينا صورتَكَ على “توكتوك” مكَرود، وإن دخلنا دكّاناً، وكان يضعُ صورتكَ وراءه، كنّا نطمئنُ لبضاعتِهِ وابتسامته.
كلّ لحظة، ونحنُ في كنفِ عباءتكَ، يا خير الدُنيا والآخرة، منذ طلْقِ أمّهاتِنا، حتى نقلاتِ جثاميننا الثلاث ونحنُ نصلُ المآل والمُنتهى، في أرضِكَ، في أرضِ الغريّ.
السلام عليكَ يا أبا الحسن، يا أبانا العراقيّ، وأسأل الله أن لا نردَ إليه إلاّ ويداكَ الحانيتان فوق رؤوسنا، رؤوس بنيكَ المكَاريد.