علي وجيه
لا أعلمُ مدى صعوبة أن يفهمَ باحثٌ ومحقّق، يحتفظُ أيُّ قارئ منّا بأربعة كتبٍ له على الأقل بمكتبته، مثل د.رشيد الخيّون، معادلةً بسيطة: الشيعةُ جماعة بشرية، مثلها مثل أيّ جماعة أخرى: وفيها ما فيها من صوابات وأخطاء، وضحايا ولصوص، وطيّبين وأشرار، مثلهم مثل السنّة، الكرد، وكلّ خلق الله.
وهذا ليس رشيد الخيّون نفسه الذي تلقّفنا كتبَهُ بعد ٢٠٠٣، أعني مرحلةَ طباعته في دار الجمل، قبل أن يندرجَ ضمن مطبوعات “المسبار” وأن يكونَ مقرّباً من المركزيّة الثقافية الخليجية بشكلٍ رسميّ، حتى تحوّل رشيد الخيّون إلى شخصٍ آخر.
من الطبيعيّ تماماً أن يكونَ المرءُ ضدّ “ولاية الفقيه” مثلاً، أنا شخصياً لديّ إشكالاتٌ عملاقة على مدرسة الولاية، وكذلك طيف عملاق من الشيعة حول العالم. أو أن يكونَ للمرء إشكالاتٌ على النظام الإيراني، أو حتى النظام السياسيّ العراقيّ الحالي، لكن إن صارَ الإشكال هو مع “الشيعة” بوصفهم جماعةً بشريّة، فإنَّ هذا الأمر عجيب، ولا يوصف إلاّ بـ”الدونيّة”، أن ينظرَ المرء للجماعةِ التي ينتمي لها، ويرى فيها جَرَباً وعاراً، وحتى ذلك بالإمكان فهمه ثقافياً، إن افترضنا امتلاكه عقلاً نقدياً جبّاراً، لكنَّ ما لا يُفهم هو أن يكونَ هذا التوجّه بعد العمل مع مؤسسات خليجيّة، بشكلٍ واضح وصريح.
الدونيّة هذه، تجلّت لدى الكرد مثلاً مع “الفرسان”، الذين قاتلوا الكردَ مع صدّام، وأسموهم أبناءُ الجبل بـ”الجحوش”، وتجلّت أيضاً مع بعض الشخصيات السنّية التي بالغت بانتمائها للمعسكر الشيعيّ السياسيّ، وهذا ما يجعلُهم، بوصفِهم عناصر غريبة، أن يكونوا متطرّفين ضدّ أبناء جلدتِهم بشكلٍ أكثر من أيّ متطرف، كما كان محمّد حمزة الزبيدي، الشيعيّ، مجرماً بحقّ الشيعة، أكثر من عدنان خير الله السنّي، مثلاً لا حصرا!
الخيّون، المنحدر من ذي قار، لا يرى في الشيعة إلاّ كلّ المثالب، من أقصى يمينهم إلى يسارهم، بمعتدليهم وراديكالييهم، بل يصل الأمر به، أن يستنكرَ تجمَّعَ أفارقة، يتحدثون عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، دون أن يمسّهم بحرفٍ سابقاً، رغم قرون كان فيه هؤلاء الأفارقة مكشوفي المؤخرات والصدور، برجالهم ونسائهم.
يكتبُ “عمائم سود في قصر آل سعود”، ثم لا يكتفي، لينتجَ سرديّةً لطالب الرفاعي، أحد قيادات الدعوة، فقط لإنزالِ قوى الإسلام السياسي الشيعيّ في طين التأريخ أكثر فأكثر، ثم يعود لمظفّر النواب، ليجعلَ منه هندياً، ثمّ للجيش العراقي وجعلِهِ “جيش الهالكي”، بنبرةٍ تتواءم بشكلٍ عجيب، مع كل المعسكرات التي أثخنت أسواقنا بالمفخخات.
وليس ذلك فحسب، يُنتِجُ الخيّون سِفراً كبيراً، بـ ٤٤٠ صفحة، بعنوان “صرعى العقائد – المقتولون بسبب دينيّ إسلاميّ قديماً وحديثاً”، يسلبُ فيه الشيعة حتى شرف معارضتهم أو الموت لسبب عقائديّ، من عليّ بن أبي طالب (ع) وأولاده، وصولاً لسلسلة عملاقة من أصحابه، والتابعين، وصولاً للعمائم الشيعيّة التي أثخن فيها النظامُ البعثيّ القتل، لكنه يذهب ليرصدَ “فرج فودة”، المفكّر المصريّ المعروف، ويغفلُ العين عن آل الحكيم والصدر وكاشف الغطاء والمبرقع وغيرهم من الأسر التي أعطت المئات من الشهداء، والاتجاهات الحزبيّة الأخرى، لسبب “عقائديّ إسلاميّ، قديماً وحديثاً”، على حدّ تعبيره.
من المؤسف أن يكونَ هذا الرفّ، رفّ الخيون، مُدلِّساً لهذه الدرجة، حاجباً الحقائق، بسبب عملٍ عابرٍ، لشخصٍ تعاطى كثيراً مع الفلسفة والعرفان والزاهدين، كان يُمكن للخيّون أن يكون رشيدَ ما بعد ٢٠٠٣، لا الذي يصمتُ عن غزّة، وعن المذابح التي تعرّض لها العراقيون الشيعة، وعن بطولاتِهم، وعن الأنظمة الأبوية السيئة التي إن عارضها سيعودُ لنا بعلبة لحم مفروم، ليجلدَ أهلَهُ بكرةً وعصيّاً.
العقلُ النقديّ، إن لم يكن بانوراميّاً، يرصدُ القتلةَ من كلّ الفئات، والمقتولين من كلّ الفئات، إنما هو مجرّد تاكسي للتأجير، ويبدو أنّ أحدهم قال للخيّون، بعد إيصاله كما يجب “احتفظ بالباقي، طال عمرك”.