طالب عبد العزيز
“الزهاوي” و”البرلمان” و”البرازيلية” و”حسن عجمي” و”المعقدين” و”الشابندر” وغيرها، مقاه ثقافية بغدادية أرخت للحياة الثقافية، وذاع صيتها خارج العراق، وتناولتها الصحافة منذ عشرينات القرن الماضي، في البصرة أيضاً، هناك عدة مقاه، اتخذها الأدباء والمثقفون مكاناً لهم، لكنَّ الصحافة في البصرة قليلة الحديث عنها، ويندر ذكرها في مقالات الأدباء وفي كتبهم، مع أنها كانت مؤشّرة في مركز المدينة والبصرة القديمة والضواحي الأخرى.
نعتقد بأنَّ القارئ البصري لا يعرف إلا القليل عنها، فهو لم يسمع بحكاية مقهى عباس عجمي والشاعر بدر شاكر السياب، التي كانت على شط العرب، في المكان الذي يرتفع تمثاله فيه الآن. الحكاية تقول:”كانت هناك مقهى باسم مقهى عباس، يجلس فيها أدباء ومثقفو البصرة آنذاك، فيهم الشاعر السياب، ولأنه(السياب) كان فقيراً ومعوزاً فقد كان مديناً الى عباس، بدين لم يستطع سداده، حتى توفاه الله، وحين قرَّ قرار الحكومة بإقامة نصب للشاعر اختير المقهى مكاناً له، ولما أمرت البلدية صاحب المقهى عباس بإخلاء المكان لصالح التمثال ما كان منه إلا أنْ يصيح مستغيثاً:” الله أكبر، لم أخلص من السياب لا حياً ولا ميتاً”.
وحين قرَّ قرار الحكومة بإقامة نصب للشاعر اختير المقهى مكاناً له، ولما أمرت البلدية صاحب المقهى عباس بإخلاء المكان لصالح التمثال ما كان منه إلا أنْ يصيح مستغيثاً:” الله أكبر، لم أخلص من السياب لا حياً ولا ميتاً”.
كانت المقهى ومازالت مكاناً لقراءة الصحيفة، وفيها يلتقي الأديب زميله، ويطالع كتابه، وعلى مقاعدها كثيراً اختيرت الكتب وسمعت القصائد وفحصت الروايات وأكلت لحوم البعض، فالمقهى مكان للغيبة أيضاً، لم لا فهي مكان لمثل هذه وتلك. لا أظن أحداً من أدباء وفناني البصرة في الستينات والسبعينات لم يدخل كازينو ومطعم حداد يوماً، الذي بسوق حنا الشيخ الجديد، فلطالما كنا نرى بعضهم هناك، صاعدين صحاة، أو نازلين سكارى، ولن نسمي أحداً، فقد عبث الزمن برصيد الكلمات، وتغيرت الدوال، ولم يعد الحديث في الصحو والسكر ذا نفع لأحد.
ذات نهار شتوي طلب الرسام عبد الغفار مال الله من السيد سلمان حداد صاحب كافتيريا ومطعم حداد أن يترك الشرفة مفتوحة، كانت تطل على نهر العشار، فأخذ الفنان يجول ببصره، ثم أنَّ عينه حطت على ساعة سورين، التي ستنوشها يد الدهر، وتلقي بها في غيابة مخازن البلدية. كانت ريشته تنقل المشهد كاملاً، النهر والجسر والسوق والمقهى، ويزداد المشهد ألقاً إذ علمنا أن السيد سورين كان قد أهدى هذه الساعة، ونصبها تخليداً لذكرى زوجته، التي أعطته طفلاً، ربما كان أجمل طفل في العشار آنذاك.
وما كازينو ومطعم على بابا في شارع الوطني إلا أحد أجمل الأماكن تلك، ولأدباء ومثقفي البصرة فيه حكايات، وخصومات، وشعر وخمر وسكر وقصائد ولوحات، ولطالما رأيتُ القاص محمود عبد الوهاب والشعراء كاظم الحجاج وحسين عبد اللطيف وعبد الخالق محمود ومجيد الموسوي والناقد جميل الشبيبي والرسام جبار داود العطية والناقد عبد الرحمن علي والشاعر عبد الكريم كاصد والمسرحي جبار صبري العطية وسواهم هناك.
كنت قد سألت الأستاذ إحسان السامرائي عن أماكن أخر لأدباء البصرة، فذكر نواد ومقاه لم أسمع بها من قبل، مثل نادي اللواء الذي كان يجلس فيه المؤرخ المرحوم حامد البازي، والشاعر غالب الناهي، النادي الذي لم يكن مكاناً محبباً لآخرين، وهناك مقهى حبش قرب مشرب الساحل، المقابل لمبنى المحافظة القديم، كان يجلس فيه الأستاذ محمود محمد الحبيب، صاحب مجموعة (صرعى) القصصية، ومعه مجموعة من الأدباء الكلاسيكيين، وأيضاً مقهى عباس عجمي، الذي يقع عند بداية شارع الكورنيش، وكذلك مقهى أحمد الشيخلي، قرب مقهى البدر، لكن السامرائي توقف كثيراً عند المقهى السويسري، لصاحبه السيد إبراهيم سفر ،صديق الفنانين التشكيليين، والمحبُّ لإعمالهم، المقهى يقع في شارع الوطني، مقابل مكتب الخطوط الجوية ألان، ولا يسع لأكثر من 15 مقعداً، يقدِّم القهوة، ويسمع فيه الأدباء الموسيقى، ويعرض الرسامون لوحاتهم للبيع فيه، ويقول بأنه باع مرة أحدى لوحاته بـ 36 ديناراً، إلا أنَّه كان مديناً لصاحب المقهى ما يقارب المبلغ ذاك، ثمناً للشايات والقهوة التي يتناولها مع أصدقاؤه المفلسين مثله آنذاك، ولم يجن من سعر اللوحة غير (30) فلساً عند عودته للبيت… كان ذلك مطلع الستينات.
يبقى لمقهى البدر الأثر العميق في نفوس الأدباء البصريين، بل هو الأكثر شهرةً، بين أماكن أماسيهم وليليهم، إذ يقع في منتصف شارع الكورنيش، على شط العرب، وكان من أجمل كازينوهات الساحل الجميل، لما يتمتع به صاحبها السيد مهدي البدر (أبو وضاح) من خلق نبيل، وسعة صدر وحسن معشر.
يبقى لمقهى البدر الأثر العميق في نفوس الأدباء البصريين، بل هو الأكثر شهرةً، بين أماكن أماسيهم وليليهم، إذ يقع في منتصف شارع الكورنيش، على شط العرب، وكان من أجمل كازينوهات الساحل الجميل، لما يتمتع به صاحبها السيد مهدي البدر (أبو وضاح) من خلق نبيل، وسعة صدر وحسن معشر.
من روادها البارزين شاعرنا الكبير بدر شاكر السياب، والقاص الرائد محمود عبد الوهاب، ومحمد خضير، ومهدي عيسى الصقر وغيرهم، وحدثنا من كان هناك بأنه كان يرى السياب وقد منح ظهره الشط، غارقاً في تأمل الواجهة البديعة لفندق سان جورج، بشرفاته البهيجة، التي تحط عليها ثياب راقصات ملهى شهرزاد وألف ليلة وليلة والنصر مثل حمامات ملونة، تكاد تطير فرحاً من فرط إعجاب الشاعر بها. ولعله أمضى الليل في المقصف الجميل، لفندق جبهة النهر، متأملاً صورة الراقص الفيس برسلي، التي كانت تزين صالته الواسعة، أيام مرضه، وهي لم تزل أجمل كازينوهات البصرة حتى نهشتها أنياب الحرب الأخيرة، مما اضطر صاحبها لاستبدال مكانها بأخر في نهاية الكورنيش بعيداً عن الشط..
عند مدخل سوق المغايز (الهنود) من جهة نهر العشار كان هناك مقهى صغير، لصاحبها (ابو مضر) يتخذُ روادُّه من دكّة الشطِّ مقاعد لهم، فيهم جملة ممن ذكرنا من الشعراء والفنانين، وربما التحق بهم بعض القصاصين من جماعة 12 قصة، وكان الشاعر كزار حنتوش يجلس فيه أيضاً، عند زيارته البصرة آنذاك. وحين أمرت البلدية بتوسيع الشارع تهدَّم المقهى، مع ما تهدم من فنادق، ومتاجر، ومغازات وأصبحت أثراً بعد عين، الأمر الذي أضطر فيه بعضُ الأدباء الى الانتقال إلى مقهى صغير، يقع في الفرع، ليس بعيداً عن مقهى أبي مضر المهدمة، تسمى مقهى العشار. صاحبها عبد الله، يديرها ابنه صلاح استقطبت أدباء الجيل الجديد (السبعيني) بينهم عبد الزهرة زكي، وجمال جمعة، وجمال مصطفى، وصالح جادري، وطاهر حبيب، ومهدي الحلفي، وعادل مردان، وحيدر الكعبي، وعبد الله حسين جلاب، وصاحب السطور، وكامل حسين، وسلام عبود، وجودت الونداوي، وغيرهم كثير، ولطالما شاهدنا محمد خضير وكاظم الحجاج وحسين عبد اللطيف وغيرهم مارينَ أمام واجهته، مسلّمين، غير مقيمين. في مقهى عبد الله كنتُ لا أعدم القاص قصي الجفاجي منتظراً حلول الظلام، لكي يمضي إلى زاوية في العشار، يكمل فيها ليله المفضل، صحبة الناقد حاتم العقيلي، وكذلك كان أستاذ مادة الانجليزي خضر الفضلي، بذاكرته العجيبة، وأمنيته الدائمة بالزواج والأبناء والسفر.
كان الشاعر حسين عبد اللطيف قد اتخذ من مقهى صغير، يباع فيها الجبن، تقع تحت عمارة في البصرة القديمة مجلساً له، خوفاً على قصائده القصار من القصف المدفعي، الذي طال المدينة، ثم سارع الأدباء منضمين لبحبوبته، تاركين كازينو الشناشيل(مقهى هاتف) سابقاً، فأصبح مجلسه فيها معلوماً، يقصده الفنانون والخطاطون والمطربون أيضاً، كذلك فعل الشاعر والمسرحي عبد الكريم العامري الذي اتخذ من مقهى خلف مبنى دائرة البريد، في أحد الأزقة المتفرغة من شارع أبي الأسود، مجلساً لأفكاره، يدخن النركيلة فيه، ثم أنه استقطب ثلة من الأدباء، الذين ينتظرون القاص والمترجم نجاح الجبيلي عائداً من بغداد، حاملاً بعض المجلات الإماراتية الجديدة، أو أخبار العاصمة الثقافية. يرى بعضُ الأدباء أنَّ الجلوس في المقهى مضيعة للوقت، متلفة للسراويل، مذهبة للأفكار، تبديداً للآراء، ومثارة للفتن والخصومات.
لكن، وإذا عرفنا مقاهي الادباء وأماكن لهوهم وسهرهم سيكون لنا الحق بالقول، بأنَّ البعض منهم لم يعرف عنه أنه جلس في مقهى. الشاعر محمود البريكان أنموذجاً.
لكن، وإذا عرفنا مقاهي الادباء وأماكن لهوهم وسهرهم سيكون لنا الحق بالقول، بأنَّ البعض منهم لم يعرف عنه أنه جلس في مقهى. الشاعر محمود البريكان أنموذجاً.