تمارا العطية
عرف الانسان السفر والترحال منذ البداية. ولا أعلم كيف تبلور مفهوم السفر من كونه تنقل بديهي بحثاً عن المأوى أو الطعام أو الهروب من الكوارث والحيوانات المفترسة، الى قطع مسافات مُدركْ، لغاية مُدركة؛ فتوحات وحروب، وصيد، أو زيارة مقدسات دينية، أو طلباً للعلم، وصولاً لرفاهية زيارة العائلة والأصدقاء، وثم لغاية الاستجمام. وقد قطعنا شوطاً طويلاً من قضاء أسابيع وأشهر للوصول لوجهة ما على ظهر حصان أو جمل، الى مقعد مريح يأخذك بغضون ساعات الى أقصى بقاع الأرض.
وفي صيغة السفر المعاصر، ماذا يحدث لنا خلال عبور المسافات الفاصلة بين الأمم التي اختارت لها اسم وهوية وزي ولغة وثقافة؟ أتساءل دائماً كيف تتقولب أنفسنا لفكرة استقبال هذه العناصر الغريبة علينا تدريجياً خلال وقت قصير. اذ وحينما نخرج من قوقعتنا الجغرافية، يُفتح شيء ما في دواخل أنفسنا ويستعد للعناصر المستلمة الجديدة، بضرب من الفضول والاثارة، ورغبة لاعتزال كل ما يوترنا أو ما يشغل بالنا. فتغدو هذه المسافات العابرة فضاء غامضا ومتحركاً وساحراً.
يتجلى هذا الغموض حينما يكون هذا الفضاء العابر هو سماء وغيوم. فلا اعتقد ان هنالك منجز انساني أكثر براعة واذهالاً من منجز الطيران. التجربة الفيزيائية الفذة التي عالجت خيبة الكائن البشري بامتلاك الأيدي بدلاً من الأجنحة، وتداركت عجزه بالتحليق، وروضت طمعه لأن يمشي ويسبح، ويطير أيضاً!
يتجلى هذا الغموض حينما يكون هذا الفضاء العابر هو سماء وغيوم. فلا اعتقد ان هنالك منجز انساني أكثر براعة واذهالاً من منجز الطيران. التجربة الفيزيائية الفذة التي عالجت خيبة الكائن البشري بامتلاك الأيدي بدلاً من الأجنحة، وتداركت عجزه بالتحليق، وروضت طمعه لأن يمشي ويسبح، ويطير أيضاً!
كنت أراقب يوماً ما الطير الذي كان يحلق بسماء إحدى المطارات وأنا أصعد درج الطائرة. كان يحلق عالياً ثم يعود لمستوى حيزنا، ثم يرفرف سريعاً ليعود لأعالي السماء. شعرت حينها بأنه يتعمد الإغاظة، نحن البشر الذين سنتشبث بعد قليل بقطعة حديد تحاكي شكل جناحه، ليعلمنا ان السحر لا يكمن في التحليق فحسب، بل بالمناورة الحرة بين طيات السماء.
وتساءلت حينها، إن كان شعور الغبطة هذا هو الذي أخذ بعباس بن فرناس، آرمين فيرمان بالروايات الغربية، بأن يلقي بنفسه من أعالي جبل العروس في قرطبة، بأجنحة من الحرير وريش نسور. وأعتقد أن فرناس كان قد جرب أنواع مختلفة من المواد لمعرفة ملائمتها لنسيج الأجنحة، قبل وصوله للحرير و ريش النسور. وأعتقد أيضاً أن هوس هذا الرجل بالتحليق قد شجع الناس ان يطلقوا عليه اسم “فيرمان”. اذ ومع اختلاف مؤرخو الغرب حول الاسم، فرناس او فيرمان، ومع جزم البعض انه الشخص ذاته، لكن، ما مصادفة وجود مقطع “فير”، و مايقابلها في اللغة الإنكليزية “fur” و الذي يعني وبر، فراء، في الاسمين؟ اتخيله، فرناس الحالم، يخيط ويجرب انسجة مختلفة كل يوم مع الريش والوبر، ويكسو جسمه بها، ويلقي بنفسه من أعالي القبب والمآذن والجبال. ولذلك المنظر البري، الهيبي بطريقة ما، راح يطلق عليه الناس كنية Furman أي رجل الوبر، أو الفراء[1]. ولكون فرناس اندلسياً ولد ومات في قرطبة الاسبانية، فحين تداول اخباره العرب، نقلوا هذه الكنية ببعض التلاعب، فأقترضوا ال”فير” و ترجموا Man على انها “ناس”، كما يخبرنا القاموس الحرفي والمباشر دون اعتبارات السياق. وحين دون عنه، فصارت الكنية الاسم الرسمي والذي دون لاحقاً كما يلفظ Firman دون مراعاة أصله. وبذلك فأن فرناس وفيرمان هما الشخص ذاته؛ وهذا ما اعتقده فحسب.
لابد ان الشعور مزعج جداً آنذاك، رؤية ثلاثة أرباع من حيز التواجد البشري تنزل من السماء شاقولياً فوقنا وتترك مهدورة فارغة، الا من خفقان أجنحة طيور متفوقة. هذا الشعور، مدفوعاً بفورة البحوث العلمية والتجريبية للحقبة التي عاش بها فرناس، والتي جمعت بكل رومانسية بين الطبيعة وامكانية توجيهها نحو خدمة الكائن البشري، بعيداً عن بطش يد الوقود الدخيل الذي اختصر وقت التنفيذ واختصر معه وقت التأمل الصحي بين الانسان وماحوله من طبيعة. اجتمعت هذه العناصر في رأس فرناس، وأطبق بالريش على الحرير، و قفز شاقولياً، في الحيز المهدور، ليطير لبرهة، ويعود بأجنحة مختاطة بالخذلان.
ظل الانسان المثابر ينشد التحليق بتطوير الحوار مع الطبيعة بوساطة الفيزياء العجيبة، فحول حركة الارجل السريعة لقوة رفع وطيران بمركبات الدفع البشري والفولاذ بصيغته الأولية. وما ان توالت الاكتشافات والتجارب، تحقق حلم الطيران وظل يأخذ صور تكاد تكون متكاملة في كل مرة تصدر بها مجموعة مركبات تحلق بطرق جديدة، بطارية، بخار، وقود.. الخ.
تبدو الطائرات الآن بأجل صورها، سرعة وأداء وراحة. ومنذ استقرار البحوث العلمية على وسيلة التحليق بمحركات عملاقة والانتهاء من هذا الأمر، ومع الوصول لغاية السفر المتقدمة عن غايات السفر الأولية الأخرى الأكثر جدية، المتمثلة بالرغبة بالاستجمام وزيارة مدن العالم، صُبَ الاهتمام هذه المرة على خلق جو سفر مريح داخل المركبات الطائرة، فتبلورت مع الوقت ثقافة سفر فريدة. تعززت هذه الثقافة مع الوقت ومرت بتغييرات كثيرة، بتأثير صيغ وأنماط الحياة المتحولة دائماً، لكنها بقيت تحفز شعوراً مختلفاً فريداً يليق بهذه التجربة المذهلة.
فمثلاً، هنالك دهشة غريبة حين رؤية كابتن الطائرة مع طاقمه في المطار، وهم يشقون طريقهم بأناقة مع حقائبهم الصغيرة نحو رحلتهم القادمة. ويساورنا الفضول عن هذا الطاقم فور صعوده على متن الطائرة؛ يا ترى من هؤلاء؟ ومن هو هذا البطل الخارق الذي سيطير بنا على متن مركبة فولاذية بعملية يصعب على العقل البشري ادراكها شعورياً بشكل كامل، بعد ادراكها علمياً. وكيف تعيش هذه المضيفة حياتها متنقلة في الهواء بين اقصاع الأرض؟ وكيف تبدو بهذا الترتيب دائماً رغم كل ذلك؟ وهنالك نقاط والتقاطات إنسانية غريبة أخرى تستحق التمعن لحدٍ ما. فمثلاً، تجبرك مقاعد الطائرة المكدسة على الجلوس جنباً الى جنب، ولمسافات قريبة وغريبة ومزعجة أحياناً، لعدة ساعات مع اشخاص غرباء كلياً، التقيت بهم للتو، وضعية جلوس لا نحتملها حتى مع أهلنا أو أصدقاءنا! يصبح أيضاً كل ما يتصفحه الشخص الجالس قربك على شاشة هاتفه مثيراً للاهتمام بالنسبة لك، وكل ماتقوم به على هاتفك هو كذلك على الاغلب بالنسبة للشخص نفسه. وغالباً ما يكون الشخص الذي سيجلس بجانبك، شخص ممل او عادي جداً. الشخص الحكيم الذي ستعيش معه محادثة تغير حياتك كلياً موجود فقط في أفلام هوليوود التسعينية. ومؤخراً، أصبح مظهر المضيفة المرتب بتفاصيله المتكاملة من حيث الزي وتصفيفة الشعر والمكياج، ودرجة اتقان كل تفصيلة تجعلها تبدو كما لو انها قد خرجت تواً من اعلانات مجلة ما، أصبح عادي ومتوقع. فاتقان المظهر وتصفيفة الشعر والمكياج والملامح المثالية أصبح في متناول جميع السيدات؛ أسرار مظهر المضيفة المتقن أصبحت في متناول الجميع!
وأخيراً، ألا آن الآوان لشركات الطيران التي انهمكت لعقود من الزمن لإيجاد سبل التحليق، بإعادة التفكير بخطة سلامة الرحلات. اقصد، مع كل التطورات المخيفة التي تحدث حول العالم، ألا نستطيع استبدال ستر نجاة تجعلنا نطفو فوق الماء ونسبح مع السمكات، بباراشوتات صغيرة نقفز بها اضطرارياً، ونحلق بها، مُركبةً ثقيلة فوق ظهورنا، مع طيور تستعرض حولنا بكل خفة حريتها في المناورة بين طيات السماء.
[1] في الحياة اليومية في الاندلس، كان يتم استخدام لهجة من العربية مع مزيج من الكلمات اللاتينية والرومانسية.
عندما وصلت كلمة fur لأول مرة إلى اللغة الإنجليزية، كانت فعل و يعني “اكساء ملابس شخص بشعر حيوان ناعم”. الاسم تطور من الفعل. الفعل، الذي لم يعد يستخدم كثيرًا، مأخوذ من الفعل الفرنسي furrer.