تحت ظلال المناجل     

طالب عبد العزيز

مع انقراض المساحات الخضر، ومع انقضاء عمر المكان بوصفه قطعة ماء ونخل وظلال، أتحدثُ عن الأرض التي كانت جنائن ذات يوم، وأخصُّ (أبو الخصيب والقرنة وشط العرب والفاو..) تراجعت معها الحاجة لأصحاب المهن والصناعات، التي ترتبط بالزراعة، لتحل الدكاكين والدور والأسواق والمخازن محل بساتين النخيل ومزارع الفاكهة والخضار، وسط ظلام الأشياء تلك، وإهمال واضح من الدولة يسعى حدادو القرى جاهدين، ومؤّمنين حاجات مَن ظلَّ من هؤلاء، الفلاحين والمزارعين من مناجل ومحاريث وحبال وأسرّة وأخشاب .. وغيرها من الأدوات الخاصة بالزراعة وبحياة الناس في الرقعة المنسية من الأرض هذه.

  حتى يومنا هذا ما زال الفلاح في البصرة يستخدم الأدوات الزراعية التي أستخدمها أجداده قبل 200-300سنة، إذ لم تتغير المسحاة (أداة الحرث) ولم يتغير المنجل والعكفة (آلة تشذيب كرب النخل) والفروند ( آلة صعود النخيل) وغيرها، بل ظلت كما هي، ولم تطرق يدُ التطور والتحديث بابها، فهي تصنع من ما تنتجه الحقول والبساتين هناك. من ليف النخل يصنعون حبال الفروند وعروات الزنبيل وحبال ربط الأبقار، ومن أشجار التوت يصنعون عصا المسحاة وقبضة المنجل، أما القطع الحديدية فقد كانت تجلب من مخلفات الجيوش، من الشعيبة، وربما هي أقدم من ذلك، فلطالما عثر حارثو البساتين على صفائح حديدية، وتروس، وحذوات خيول، وكيزان ماء من عصور عباسية أو عثمانية، هذه القرى هي من أقدم مناطق البصرة، يتحدثون عنها حين يتحدثون عن الأبلة ومختارة علي بن محمد والبصرة القديمة.

حتى يومنا هذا ما زال الفلاح في البصرة يستخدم الأدوات الزراعية التي أستخدمها أجداده قبل 200-300سنة، إذ لم تتغير المسحاة (أداة الحرث) ولم يتغير المنجل والعكفة (آلة تشذيب كرب النخل) والفروند ( آلة صعود النخيل) وغيرها، بل ظلت كما هي، ولم تطرق يدُ التطور والتحديث بابها، فهي تصنع من ما تنتجه الحقول والبساتين هناك.

  في دكانه بقرية مهيجران بأبي الخصيب 10كلم عن مركز المدينة الذي جدّده قريباً يقول الحدّاد السيد محمد الموسوي، 25 سنة، إنه ورث المهنة عن آبائه وأجداده، كان دكانهم من الطين والقصب والجذوع ، وقبل تجديده في 2005 كان الجنود البريطانيون مغرمين بالتقاط الصور له وللآلات القديمة فيه، والتي يعلقها بعيداً عن استخدامه اليومي، لكنه يقول : نحن هنا منذ أكثر من 200سنة، كان جدّي لأبي (سيد رشيد) أو ربما قبل ذلك، ولم يزل دكاننا (دكان الحدّاد في القرية) والناس يسموننا (السادة الحدّاحدة) ولما مات جدّي تسلم المهنة أبي، وحين مات تسلم أخي الأكبر، ومنذ أن كنا صغاراً دخلنا الدكان هذا لنصبح حدّادين.

  يدخل (أبو حسين) فلاح تجاوز عمره الـ 70 سنة ليسأل عن حاجة له لدى محمد الحداد يقوم محمد فيناوله مسحاة جديدة، ينعم أبو حسين في استقامة عصا المسحاة، يتفحصها ملياً، ثم يردف (توث)؟ توت، وهو يشير إلى العصا الغليظة الملساء، وقبل أن يغادر الدكان قال مهمهماً: نحن نريد من المسحاة أن تبقى معنا العمر كله، والتوث عمره طويل، لكنه يردف: كم ظلَّ من العمر ياترى ؟ نحن لا نعلم في أي صيف نموت؟ أهل البساتين الحقيقيين راحوا، تركوا البلاد وغادروا.

  أم علي، وهي امرأة عجوز ناهزت الخامسة والستين، عادت قبل أيام من العمرة، سألته عن المسحاة التي أوصته بتجديدها، طمأنها بأنه سوف يوصلها لبيتها، حال إكمالها، ظلت تحدثه عن موسم الرطب القريب ولم تخف خشيتها، من قيام أولادها ببيع الأرض بعد وفاتها، كذلك عتبت على السنين، التي تقدّمت بعمرها، وعدم تمكنها من صعود النخل، وقيامها بواجباتها تجاه بستانها المزروع بأجود أنواع التمور، وحين غادرت قال الحدّاد: أم علي هذه كانت تدير معظم أعمال البستان، فهي تصعد النخل الطوال، وتفلح، وتزرع، وتسقي، وتجني الرطب، لكنها عجزت اليوم، ولم يلتفت لها أحد. لم تقم الدوائر الزراعية والإروائية بالعمل على حماية الزراعة والمزارعين، وهكذا صارت التمر السعودي والكويتي يباع في أسواق مهيجران وحمدان وسواها من القرى التي كانت تنتج مئات الآلاف من الأطنان.  

  محمد جواد الذي يبدو بعيداً عن المخاوف هذه، مغرم بالحديث عن دكانه الأثري: مازلنا نستخدم الفحم في الكورة حين نريد عمل المناجل والمساحي وغيرها، فالحديد لا يستجيب بدون الحرارة العالية، وهذا المنفاخ (الكير) لم نجر عليه تغييراً، في العام 2004 تعجب الجنود البريطانيون من رؤيته، قال المترجم لنا: يقول الضابط: هذه مصانع تراثية، لابد من المحافظة عليها، لذا بدأ أخي الكبير بتعليق الآلات القديمة التي صنعها جدّي على حيطان الدكان، هي للتذكير بحياة كانت لها معان كبيرة.

  تنتشر دكاكين الحدادين على طول الطريق الممتدة بين البصرة وأبي الخصيب، ولا تكاد قرية تخلو من احدهم، ففي قرية عويسيان وعلى الشارع العام كان دكان صالح الحداد، كان أحدبَ، ولما توفي تسلمه ابنه مهدي، الذي تقوس ظهره أيضاً قبل أن يموت، وعلى الرغم من بتر ساقه في الحرب مع إيران، التي سحقتها دبابة عراقية كانت في طريقها للمحمرة عام 1980 ،إلا أنه لا زال الحداد الوحيد فيها، وهو فنان في نجارة قبضات المناجل، وصناعة مطارق الخشب، التي تستخدم بتنعيم الأرض قبل زراعتها، وكذلك بعمل خوازيق شرح النخيل (الكاوات) من شجر السدر والتوت.

  ولم يطق جاسم الحدّاد في قرية السراجي 5 كلم عن العشار –مركز المدينة – البقاء في مهنة تنقرض كل يوم، فترك دكان العائلة الواقع على الطريق العام، واشترى محلاً في البصرة، قرب مسجد المقام، لبيع الحبال والمعدات الزراعية وصيد الأسماك، شِباك وصنارات، فهو لم يذهب بعيداً عن مهنته كما يقول: بدلاً من صناعة الآلات تلك فضلت أن أكون تاجراً لها، فأنا اجلبها من بغداد والحلة والكوت، هناك الزراعة لا تزال بخير، في البصرة تراجعت حياة الفلاحين ودخلت المدينة على الريف لتخربه الى الأبد.

مثلما انقرضت بشكل نهائي صناعة القوارب والأبلام والأبوام الخشبية في قريتي نهر خوز وأبو مغيرة وكذلك في منطقة الهوير بالقرنة في فترة الحصار 1990-2003 بعد شيوع استخدام البانطونات الحديدية في تهريب النفط، وتراجع العمل في صيد الأسماك بسبب شحة الوقود ولجوء غالبية الصيادين للعمل بالتهريب، فقد أدرك الانقراضُ صناعة أدوات الفلاح هذه وأتى استيراد المعدات الحديثة من الخارج عليها بالتمام.

  ومثلما انقرضت بشكل نهائي صناعة القوارب والأبلام والأبوام الخشبية في قريتي نهر خوز وأبو مغيرة وكذلك في منطقة الهوير بالقرنة في فترة الحصار 1990-2003 بعد شيوع استخدام البانطونات الحديدية في تهريب النفط، وتراجع العمل في صيد الأسماك بسبب شحة الوقود ولجوء غالبية الصيادين للعمل بالتهريب، فقد أدرك الانقراضُ صناعة أدوات الفلاح هذه وأتى استيراد المعدات الحديثة من الخارج عليها بالتمام. وسط المخاوف هذه، يتفاخر محمد الحداد بصناعته التي يفضلها الفلاحون على المستورد من الخارج، فهو يعطي ضمانات سنوية (غير مكتوبة) لما يصنع، ويقول للزبون:” خذها، هاي مهيجرانية أصلية، اشتغل بيها ما تريد، سنة، سنتين، ثلاثة وإذا لم تعجبك، أعدها، سأعطيك أخرى، ثم يضحك” يتحدث، ويعمل، ويقوم بأشياء كثيرة ..لكنه لا يخرج من الحفرة التي دخل فيها، فهو لا يجلس على كرسي، ولا توجد طاولة أمامه، كما يفعل الصناع في المحلات اليوم. هو يقف داخل حفرة تصل لمنتصفه ثم يطرق على الحديد المُحّمر والخارج من الكير توا، إنه يصنع مسحاة جديدة، لفلاح تجاوز السبعين، يأمل بحياة أطول. فيما يتطلع لجيل جديد يمتهن الزراعة بوصفها مهنة الآباء والأجداد، يقول: هي مصدر رزق أزلي.

مواضيع ذات صلة

البصرة تستعيد تأريخها الملاحي في شط العرب

منتسبون عبر “مرفأ”: إجازاتنا مُغتصبة بكل مناسبة.. ولم نحصل على أي امتيازات

بـ٥٠ خطأً إملائياً ولغويّاً.. قصر “الثقافة والفنون” يناشد السوداني

العامري يحشّد أهالي البصرة للتعداد: سيُزيد فرص التعيين والرعاية والخدمات

لا أحد على رملة الفاو 

“ضغطة الزر المهمّة”.. ماذا يعني افتتاح الأرصفة الخمسة في ميناء الفاو؟