طالب عبد العزيز
مبتهجاً بيُسرة عبورك نقطة التفتيش المزدحمة، ووجودك مطمئناً خارج الاسوار. تلقي بجسدك في مقعد المركبةِ، الذي يلي السائق، ولأنَّ حقيبتك صغيرةٌ فقد جعلتها في الحوض، خلفكَ، ومن نقطة معلومة على الحدود، حيث لم يزل كلُّ شيءٍ عربيٍّ، حتى اللحظة هذه، توجّهتَ الى المقهى. الوقت المتبقي على موعد الطائرة لا يستدعي فندقاً، والضاحية العربية في البلاد الفارسية صغيرة أيضاً، بيوتها من الطوب والاشجار فقيرة، وأنت لا تعرفُ أحداً هنا. شربت الشايَ، وتنعمت بطعم النعناع فيه، ولم يضايقك أحدٌ برائحة الدخان، فمجلسك قبالة الشارع أسلمك الى الباب، فترتسم صور المارة في الزجاج، هم يذوبون في الوقت، ولا يأبهون بك، مع أنك المختلف في المكان التقليدي هذا، ذلك لأنَّ الشجون تذهب بهم الى ما تخشى منه، وتفكر فيه.
في الرابعة بعد الظهر اقلعت طائرةُ التوبولف الروسية من المطار، باتجاه العاصمة الكسروية، ومع كل تعتعةٍ بأجنحتها كنت تستنجدُ بإلهٍ كنت تدّخرهُ لمثل التعتعات هذه، وتزيدهُ توسلاً بنبيًّ، أو تقرّباً لوليٍّ.. كلما كانت التعتعة الجديدة أكبر، وهكذا رحتَّ تتقلبُ في السماء التي بدت أكثر زرقة، وأقلَّ هلعاً، إذْ لم تمسسْ الطائرةَ رعودُ حماقاتِك القديمةِ بسوء، أمّا المضيّفةُ الجميلةُ فقد شغلك شاغلُ تقلِّبِ الاجنحة عنها، ولم تُسمعها مما تعرفه من مفردات لغة المستعمر أكثر من مفردة الشكر، التي تأتي بإيماءة بسيطة، وابتسامة أوتوماتيكية خائفة. لكنك، وحين وقفتَ تنتظرُ مجيئَ حقيبتك في صالة المطار الكسروي كنت تستعجلُ وصولها، جاعلاً اللحظات المرعبة خلفك، فيما سائق سيارة الاجرة الجديد يلحفُ، يومئ لك أنْ تعال، اركبْ معي.
يقترحُ السائقُ عليكَ امرأةً. كان اللفظُ سبيكةً من لغات عدة، لكنَّ ترجمةً تنتظمُ في العين مرةً وفي الجسد واليد والفم ثانيةً، سرعان ما التأمت بمعنى واحدٍ، ثم تجاوزته الى المكان والوقت والطعام والشراب والدنانير. لا تعرفُ كيف تتشكل لغة الرغبات، بل، وكيف تبدو واحدة في العالم كله، في مثل اللحظات هذه، وحيث ما تكون ويكون الآخرون. هناك من يقرأ ما لم يُكتبْ، وما ليس له في المعجم مادة وجوهر. أنت إذنْ خارجٌ من باب الرغبات الى ما سيتحقق منها، ذراعك على حافة نافذة السيارة المفتوحة، تبسطها فتمسك بالهواء العابر، أو تعيد ترتيب شعْركَ، ثم تمسح بورق المحارم ما كان خجلاً، أمَّا السائقُ فعين على الطريق وأخرى عليك، هو صديقك الآن، أعطاك رقم هاتفه واعطيته ما طلبه من النقود.
أمضيت ليل لعاصمة الكسروية في كافيتريا نادي الفنون والموسيقى. الشاعرةُ والمترجمة الجميلة أخذتك الى هناك، فكان الحديث عن السينما والالوان والشعر وفروغي فرح زاد مادة الليل، الذي تذأبت آخر نجومه، ثم أنها استغربت أنك لم تنل من خمرة طهران شيئاً، المَهَرَةُ، صنّاعُها أخفوها عنك، فهي في الدنان هاجعة، ما تزال، لهذا أخذتَ الطريق بنورها القليل الى الفندق، ماراً بمنى المسرح الكبير وقبل أنْ تسأل السرير حلماً نمت. كانت صالة المطعم فارهةً، وبابتسامتها المعهودة سألتك سيدةُ الكاشير عن رقم غرفتك، فاختلفت ثلاثة أرقام على فمك، لكنك انتقيتَ من البوفيه ما أردت فطوراً لصباحك، فيما رائحة الشاي بالزعفران تملأ الفضاء الذي ابتدأت الاجسادُ تُشغله تباعاً. شيءٌ من كمانٍ غير مخدوشٍ بآلة أخرى راحَ يرتبُ الوقتَ بين الطاولات، حيث لم يبق على موعد الطائرة سوى حقيبة سوداء وقطعة البوردنك الصغيرة.