طالب عبد العزيز
كان الشاعر الكبير بدر شاكر السياب ( 1926 ـ 1964 ) قد اتخذ من المطر رمزاً، وصار شعره لا يُدرّس خارج لازمة المطر ( الحياة ) ومنحتنا قصيدته الرائعة “أنشودة المطر” فرصة كبيرة لمعاينة واحدة من أكثر القصائد أهمية في القرن العشرين “الأرض اليباب” لـ ت. أس . إليوت التي سبق للسياب أن اطّلع عليها مع ما اطّلع عليه من الشعر الإنكليزي، وعلى قصائد الشاعرة (أديث ستويل) خاصة، كما يؤشّر ذلك معظم دارسي شعره.
وإذا كانت “الأرض اليباب” القصيدة التي أثّرت تأثيراً كبيراً في الشعر العالمي، لقرن كامل، وامتد تأثيرها فعمَّ الشعر الحديث المكتوب بالعربية كله تقريباً، حتى لا يكاد شاعر في النصف الأخير من القرن الماضي إلا وأخذ عنها شيئاً، في أسلوبها، وفكرتها، وطريقة بنائها، وعمق تناولها لمشكلات العصر، فإنّ قصيدة “أنشودة المطر” تعدّ بلا منازع واحدة من أهم الإنجازات الثقافية في الشعر العربي الحديث. وإذا كان الشعر العالمي والأوربي خاصة يدين لأليوت، وأرضه الخراب، فإن الشعر العربي كلّه مدين للسياب، وأنشودة مطره الخالدة. مثلما فعلت تلك هناك فعلت هذه هنا. لقد انتقلت عبرها الفنون والآداب والمعارف إلى مرحلة جديدة، وتكاد تنسب لها كل ممارسة إبداعية حديثة، على امتداد أرض العرب وسعتها.
وإذا كنا نحتفل ( شعراء ودارسون) مع العالم الكبير بقصيدة إليوت، هذه القصيدة التي سُوِّقَت لنا وللعالم بوصفها نتاجاً حضارياً مهماً، لم نتمكن من ردّه ( وهنا لا نتحدث عن أهميتها، فقد وصفنا ذلك) لكننا نريد أن نتحدث عن الطريقة التي سُوِّقَت بها، والكيفية التي استخدمها منتجو ومسوقو الثقافة الإنكليزية، في إيصال منجزهم للعالم، وفي الوقت الذي نمتدح فيه الأشخاص الذين استطاعوا بجهود فردية إدخال القصيدة لثقافتنا العربية، ننظر بحسد بالغ، وبغبطة مؤلمة للمؤسسات المسؤولة في أوربا ( انكلترا ) التي أخذت على عاتقها مسؤولية من هذا النوع، في ذروة انشغالها الصناعي، وحرب المستعمرات الحارة والباردة، التي عصفت بالعالم آنذاك.
إنّ نظرة فاحصة لمؤسّساتنا الثقافية ترينا فقراً واضحاً في برامجها، وتخبطاً وارتجالاً، خاصة فيما يتعلّق بنقل الثقافات الأخرى للغتنا، فالترجمة عندها لا تخضع لمنهج مدروس، ومخطط له، وإنما لأمزجة دور النشر، واقتصادها، إذْ لم تتمكن الكتب المنقولة إلينا من لغات العالم الحي، على الرغم من تنوّعها وأهميتها من ردم الهوّة التي تعاني منها مكتبتنا العربية، فهي تقع دائماً أسيرة سعار الجوائز، واستطلاعات دور النشر، التي تختلف بالضرورة عن طبيعة تناول القارئ العربي .
إن إنتاج الثقافة لا يعني المكتوب بلغتها فحسب، إذ لا يمكن الحديث عن ثقافة أمّةٍ ما خارج تفاعلاتها، مع لغات العالم الآخر، ولم تكن الثقافة العربية (شعراً ، سرداً ، وفنونا أخر ) لتقع خارج أهمية المنجز الإنساني، عبر تواترها في العصور، فقد قدّمت للعالم نفائس كبيرة، تفتخر المكتبات باقتنائها، لكنها مع الأسف لم تقدّم عبر مترجمين عرب، مختصين ، ولم تصل لهم إلا عبر ترجمات ضعيفة، غير أمينة، لمستشرقين، هدفهم رؤية الشرق، بوصفه زخرفاً وبُهرجاً وزينة باهرة، خالية من المعاني الحقيقية التي نعرفها به نحن . ولعل الحديث عن الترجمة يقودنا إلى الوصف الذي قال به وزير المستعمرات آنذاك تشرشل حين قال: (إنّ حكومة جلالة الملكة فخورة بأنها تصدّرُ للعالم أحدث الماكينات، ومعها شكسبير).
هذا تصوّر كبير، نابع من مسؤولية كبيرة، يمنحنا درساً في إنتاج الثقافة، وتسويقها. إذا كان العالم لم يتعرّف على منجزنا الثقافي بشكل كامل بعد، فهذا لا يعني أبداً أنَّ منجزنا هذا يقع خارج الأهمية الإنسانية والحضارية، ولا نريد أن نتحدث عن أهمية النصوص القديمة (سومرية، آشورية، بابلية، أكادية، فرعونية، ألف ليلة وليلة … الخ ) فهي نصوص معلومة بأهميتها لدى الكل، وترجمها علماؤهم وآثارييهم، وتمثلوها في آدابهم ولغاتهم، وقد سبق لنا أن تعرّفنا على بعضها من خلالهم ، مطلع القرن الماضي .
دراسة عميقة لقصيدة “أنشودة المطر ” أو فحصٌ حقيقيٌّ لثلاثية نجيب محفوظ، أو تأملاً معرفياً لكتب أدونيس ودرويش وسعدي وطرابيشي ومحمد عابد الجابري والعشرات من الذين ذكرنا كفيل بمنح العالم صورة مهمة للثقافة العربية، فقد استطاع القارئ العربي أن يتعرف على الثقافة الإسبانية مثلا في بحر سنوات قليلة ( مطلع الثمانينات) وصارت أسماء مثل سرفانتس، لوركا، نيرودا، ماركيز ، بورخيس … معلومة لديه، ترى كم يحفظ القارئ الإسباني من أسماء المبدعين العرب الذين ذكرنا …؟
الحقَّ نقول أنَّ واحدة من إنجازات العربية اليوم هي قصيدة “أنشودة المطر ” ولو قيّض لها أن تُدرس وتترجم وتُسَوَّق للعالم مثلما قُدِّمَتْ إلينا الأرض اليباب لَمَنَحَت تراث الإنسانية دماً حضارياً جديداً، ولمنحت مشروعنا الثقافي صورة لا تقلُّ أهميتها عن الكثير من الذي ترجم لنا مصادفة، وصار ضمن نسيج معارفنا “أنشودة المطر” نشيد شعري كبير ، وبضاعة عربية غنية لم نحسن تصديرها للعالم بعد.