تمارا العطية
ابتدأتُ يومي بمعاينة جثّة ذبابة والتي اخذتْ تتحرّك وأنا أمر بجانبها، كأنها كانت تناديني طالبةً النجدة. وبينما كنت على عجالة وفي طريقي للخروج الى عملي، حاولتُ تقديم المساعدة بشكل سريع، قلّبت جسدها باستخدام قلم رصاص، يميناً ويساراً على أمل أن يساعدها ذلك في استعادة توازنها. وحين عاد جسدها إلى وضعه الطبيعي، بدأت ترفرف جناحيها وهي في مكانها. اعتقدت بأنها بحالٍ أفضل، وبأنها ستستطيع بعد ذلك أن تطير، وأن تؤدّي دورها في ازعاج الجنس البشري ممن “يتشاجرون مع ذباب وجههم”، والأخرين.
عندما عدت إلى البيت، وأنا على عجالة كذلك بمهمة أخرى، وجدت الذبابة جثةً هامدة في المكان ذاته. شعرتُ بعدم الارتياح وبتأنيب الضمير؛ لا أعرف إن كان يجدر بي بذل وقت أكبر في محاولة انقاذها، أو إن كان لابد لي من معالجتها بأدوات أصغر ربما؟ ملقط مثلاً؟ وأن أسحب جناحيها المتضررين. أو ربما كان الأجدر بي أن أعطيها جلستين علاج فيزيائي لجناحيها حتى تستعيد حركتهما الطبيعية؟
تقبلت حقيقة موتها، فهي ربما الأكثر حظاً من الكثير من الكائنات اليوم التي لا يضرها شيء مما تمر به الأرض وأزماتها. لكن، لا تمر حقيقة موت كائنات أخرى، كالكلاب والقطط، عليّ بهذا التقبل. وهذه ليست بمبالغة أو شعوراً عرضياً بضرب من الجنون! هذا الشعور مكتسب. فتربيتي لكلبة صغيرة جعلني أدرك وأؤمن أن لكل كائن الحق بأن يمارس وجوده على سطح الكوكب وأن يعيش صيغته الخاصة من الحياة كحياة! حتى وإن كان هذا الكائن لا توجد له صفة مناسبة في قواميس اللغة المتنوعة أكثر من “مزعج/ة”، كذبابة!
ما تعلمته مؤخراً بتعجب واعجاب، هو الشعور الذي تمتلكه هذه الكائنات، الكلاب خاصة. إذ أنها تفرح وتحزن وتتحمس، لكن تخونها قدراتها الكلامية والتعبيرية، فتكتفي بإيماءات وأصوات وحركات توصل بها لنا ما يعتريها؛ كلبتي الصغيرة لا تأكل إلا حين عودتي الى البيت، تحزن وتكتئب إن مرض أحد أفراد المنزل، وتموء كمواء القطة حين لا نعطيها بعض الأكل من الطبق الموضوع على طاولة أعلى من مستوى وصولها.
تقدم الكلاب الكثير من الحب المطلق، غير المشروط، للإنسان الذي يهتم بها ويرعاها. وتتعامل بديهياً بسلامٍ مع البشر، بعد قرون من ترويضها وتربيتها الانتقائية من سلالاتها الأولى، إلا إذا تمّت مهاجمتها مراراً وتكراراً. تحفز في هذه الحالة آلية الدفاع بالوهلة الأولى ضد الكائن البشري الغريب، ثم تعود لحبها له إن التمست منه ذلك. إن هذه الكائنات هي طوع البشر بما ستؤول له لاحقاً. وربما هذا اختبارنا الدنيوي الكبير. فأن قسى الانسان عليها تحولت الى ندٍ له. وفعلاً، في أذيتها وقتلها أو بصنع وحش منها، أو في التغاضي عن نعمة وجودها، ككائنات رفيقة محبة، الخاسر هو الانسان.
“في كلّ مرّة أرى بها جثة قطة أو كلب على جانب طريق الاسفلت السريع، أرى تجسيداً لفشل الإنسانية في اعتبار ظروف العيش المؤاتية لغيرهم من الكائنات، وأنانية ترفعهم وانشغالهم عن إيجاد الحلول لذلك”.
إن هذه الكائنات لا حول لها ولا قوة. تنتظر منا اعانتها على وجودها الصعب. لا تجيد مهارة النجاة والتعايش مع البيئة الحضرية الدخيلة على بيئتها الفطرية الطبيعية. ونحن لم نقومها أو نساعدها في التأقلم مع محيط المدينة القاسي، بل وضعناها في خانة المشاهد الشاذة غير المقبولة تحت إطار التمدن الأناني. فجاءت الحلول لهذا الوضع الذي لا مفر منه: خلطات كيميائية لسموم قاتلة لكل كائن لا يندمج بمشهد أقنعنا به أنفسنا وعشقناه؛ شارع واسفلت وأرصفة صلدة، وتشجيع ممارسات عنيفة ضد هذه الكائنات لكل من لديه القدرة على فعل ذلك. ثم كانت أفضل صيغة تعامل واكثرها رحمة عبر السنوات، هي بــ”امتلاك” الحيوان الأليف والقيام بحبسه وربطه، مع تقديم الماء والطعام له، هذا فقط! وإذا كان الانسان يجد بتقديمه للماء والطعام اشباعاً لشعور الزهو بنفسه بفعله الإنساني هذا، فلا يعد ما قدمه الا بديهياً ومتوقعاً وواجباً، ومن غيره سيكون، الكائن الانسان، قاتلاً ليس إلا. وهو أقرب لذلك حين يربط كائن آخر بسلسلة أو حبل ليحتجزه في مكانه، ويحد من مساحة حركته، كائن خلق فطرياً محباً للطبيعة والجري في الفضاء الواسع المفتوح؛ يعيد الانسان ترتيب أولويات بقائه وراحته، فيضع هذه الحرّيّة أسفل الهرميّة أو يزيلها من الأساس.
لا تمر أيام قليلة دون أن أرى خبر قتل كلب أو قطة في منطقة ما بكل وحشية وعدائية. والغريب، أن من يقوم بهذه الجرائم هم أحياناً أشخاص بيننا، يقضون على هذه الحيوانات إما لانزعاجهم الأناني من وجودها أو لإشباع شعورهم بالقدرة الدهائية التي لا يمتلكها الحيوان حين القضاء عليه دون سبب!
لم توظف أي جهة في مدننا الحلول الصحيحة في التعامل مع هذه الحيوانات. وتشتكي الكثير من العوائل من وجود عدد كبير من الكلاب السائبة مثلاً في مناطقها؛ وهي بالتأكيد مشكلة حقيقة، خاصّة لما تمثله هذه الكلاب من خطورة بسبب شراستها (المكتسبة بفعل الانسان) ومن احتمالية إصابتها بأمراض خطيرة. ولا تجد الجهات المسؤولة حلولاً أسهل من عمليات القتل البشع الذي تطهر به مدنية مدنها الركيكة.
هل هذا هو الحل الوحيد الذي وصل له الإنسان صاحب العقل لمشكلة كائن آخر دونه؟ الكائن الذي عول على الإنسان كثيراً لذلك، ولاعتباره رفيقاً له بالتجربة الشعورية، يبكي كبكائه ويعشق كعشقه. الكائن الذي لم يفهم ولن يفهم أن نسبية نقائض النفس البشرية ترجح الشر المكبوت تحت ذريعة النية الحسنة والمفسرة والمقبولة فوق المشاعر الرحيمة.
“إن عمل الذباب يتجاوز الازعاج البسيط للبشر، إذ أنها تساعدنا على تنظيف جميع النفايات البيولوجية والعضوية”.
في يومٍ آخر ابتدأت يومي بمعاينة جثة كلب أمام باب بيتنا. كائن اليف، تم القضاء عليه على يد أحدٍ ما شعر بأن وجوده أهم من وجود هذا الكائن الحقير بالنسبة له. جثة حادة الأطراف متيبسة، تنقع في ماء بركة آسنة على حافة الرصيف. مرت الأيام واخذ جسد الحيوان الطيب بالتحلل وتجمعت أكوام الذباب حوله، فوز آخر لهذه الكائنات التي ربما هي الأكثر حظاً من الكثير من الكائنات اليوم التي لا يضرها أي مما تمر به الأرض وأزماتها.