لا أحد على رملة الفاو 

في واحدة من القراءات المستعادة والحربُ بين إيران والعراق قائمة، مستعرة، يغامر أستاذ جامعي بريطاني، من أصول هندية، ويقبل بعرض لجامعة البصرة، لتدريس طلبتها مادة الادب الانجليزي، مدفوعا بما قرأه عن المدينة، في كتاب الليالي العربية (ألف ليلة وليلة) ذلك هو الاستاذ سورانك، والذي سيكتب بعد سنوات طويلة، كتابه الجميل (في بلاد الإله آنكي) وبترجمة أحد طلابه، والذي سيصبح شاعراً ومترجماً معروفاً، هو (سهيل نجم عبود). 

  وفي بعض فصول كتابه يقول سورانك بانه وفي يوم شتوي، رطْب، أخذ سيارة أجرة، وذهب إلى شبه جزيرة الفاو، باحثا عمن يوصله الى البحر، إذ من غير المعقول ألا يرى البحر، وقد أمضى على إقامته في المدينة المائية الكبيرة السنة والسنتين، المدينة التي سحرته ذات يوم، وخلبت لبّه، حتى أن بعض أصدقائه وصفوه بالمجنون، ذلك لأنه يدخل مدينة تستعر على حدودها أشرس حروب النصف الثاني من القرن العشرين. سورانك، الذ سحرته عوالم ألف ليلة وليلة، كان يقيم في شقة متواضعة بشارع الصيادلة، في العشار، الذي تحاصره عيادات الأطباء. 

بعد رحلة شاقة، وبين أرتال السيارات العسكرية والدبابات، سيصل الدكتور سورانك النقطة، التي لم تعد السيارة فيها قادرة على السير خطوة أخرى، فقد طغى المدُّ على البحر وبلغ اليابسة، وصارت الأرض ماءً دبقاً ووحولا، ثم أنَّ الجنود اوقفوا سيارته، ومنعوه من المشي أكثر من هذا، ذلك لأنها كانت منطقة محرمة على المدنيين، ولا معنى لمجيئه، ومن مكانه خلف السواتر الطين كانوا يطلعونه على الجنود الإيرانيين، لكنه ظلَّ يتوسلهم، لكي يسمحوا له برؤية البحر فقط. ربما سخر الضباط منه، ولنا أن نتصور الطين العالق بحذائه الصغير، لنا تصوّر الفكرة المجنونة التي تقف وراء رغائبه تلك. ومن موضعه الذي هو فيه، أشاروا له إلى سديم أخضر وأزرق وأسود، لم يتبينه خلل الضباب الكثيف، يقول سورانك بانه شاهد أسلاكاً شائكة كثيفة تحيط بالبحر، وانّهم قالوا له بأنَّ خطراً يهدد حياته هنا. كانت أكياس الرمل والاسلاك الشائكة ومعرقلات الحديد عالية بما حال بينه والبحر تماماً.

 معلوم أنَّ أقربَ نقطة للماء في خليج البصرة، تبعد عن خشبات ميناء ام قصر وميناء الفاو وبراحة مزاد السمك في الفاو عن مركز البصرة أكثر من 110 كلم، ومع ذلك فأنَّ غالبية أهل المدينة لم يشاهدوا البحر، وسوى جماعة الصيّادين، وعمّال منصة تحمل النفط في شركة نفط الجنوب(SOC )وجنود قوات حرس الحدود لا يعلم أحدٌ من سكان المدينة عن البحر إلا القليل، ذلك لأن أحوال الطقس في مدينتي الفاو وأم قصر حارة، ورطبة في الصيف البصري الطويل، كما أنَّ الحرب الطويلة مع ايران والازمة الحدودية مع دولة الكويت اثر احتلال العراق لها وعوامل اقتصادية اخرى فضلاً عن الإهمال الحكومي للمنطقة وانعدام الحس السياحي عن العراقيين حالت دون وصول الناس الى هناك، مع أن بحرهما يشكل الجزء الأكبر من سلة  العراق السمكية، مثلما يشكل ميناء الفاو وخور الزبير ومنصات التحميل في ام قصر المنفذ الوحيد للنفط والاقتصاد العراقيين.

  لا نعرفُ ما إذا تحققت رغبة الأستاذ سورانك برؤية البحر أم لا؟ بعد أحداث العام 2003، لكنَّ الوقائع تشير الى أنه لم يعد ثانيةً، والبحر مازال بعيداً عن أهله البصريين، فكيف به! في الامر مدعاة أكيدة الى أنْ تأخذ الحكومة الامر على محمل الجد، وتفكر ملياًّ بآلية ما، ليكون البحر بمتناول العراقيين جميعاً، يأتونه ويقيمون عليه، ويستمتعون بصوت الموج، وهو يلطم الرمل والحجر، وهو يعيد السندباد، الذي يبحث عمن يقف بانتظاره عائداً.

مواضيع ذات صلة

“ضغطة الزر المهمّة”.. ماذا يعني افتتاح الأرصفة الخمسة في ميناء الفاو؟

البصرة تنجز وعدها.. “مرفأ” تنشر ملخصاً لافتتاح الأرصفة الخمسة في ميناء الفاو

صوّره في بغداد مُدعياً أنه بميناء الفاو!.. “واحد توتر” يدلّس على جمهوره بمقطع فيديو

مع جلجامش في ضياع عشبته

عن الأشياء التي تتهدم من حولنا 

الأردن تثمّن حملة الترحيب البصرية بالنشامى على أرض جذع النخلة