الحسن البصري: الزاهد والحارس والمقبرة    

طالب عبد العزيز

      قد لا يشكل دخول مقبرة (أيّ مقبرة) أهمية عند البعض، لكن لدخول مقبرة الحسن البصري أكثر من أهمية ومعنى، لا لتعلق زائد بالحياة وتفاصيلها، ولا لرهبة الموت، لكنَّ شعوراً موجعاً يذكرك بأن بين ذرات التراب التي تدوس عليها، وتتخطاها بيسر أو بغفلة إنِّما هي أجسادُ حشد من الصحابة والتابعين والأولياء والأمراء والولاة والعلماء والشعراء … تناوب الموت على طمرهم منذ سنة 14 هجرية حتى اليوم.

  ولأنَّ السور المحيط بالمقبرة لا يفصلها طويلاً، عن المدينة التي تعجُّ وتضجُّ وتتسعُ يوما إثر آخر صارت مطمحاً لأصحاب محلات الحرفيين (حدادين ونجارين ومصلحي سيارات وكهربائيين وغيرهم..) آملين بسقوطه القريب، كيما يجدوا في فضائها العميق توسعة لمتاجرهم. ولولا خوفهم من آلة الموت، وخشيتهم منه، لتوسعوا داخلها، ولأصبحت مصانعهم أكبر وأكبر. إذْ، من يأبه بقبر درس، منذ مئات السنين حتى وإن كان للحسن البصري؟ من؟

  قبل أن ألج المقبرة من بابها الرئيس، أخذ الحرس هويتي، قلت لماذا؟ قال سأسلمها لك عند مغادرتك! قلت ليكن! لكنه نصحني بأن أبحث عن الحارس، الملا، الحاج أبو ماجد، كان ذلك في الفترة بين عامي 2006-2007 هو يدلك على قبور لأسماء بالغة الأهمية (هل للقبر أهمية؟) وفي طريق ضيقةٍ بين القبور وقفت بانتظاره. رجل جاوز الستين، يرتدي دشداشة بيضاء، ويشماغاً أبيض، يطويه على رأسه، مثلما يفعل فلاحو القرى في أبي الخصيب. أبو ماجد، الذي سيعثر على جثته فيما بعد بمنزله، مجهولون ضربوا رأسه بقنينة للغاز، كان قدم للزبير قبل نحو من أربعين سنة، هو الآن يقرأ القرآن على أرواح المتوفين، بطلب من ذويهم، وشيئاً فشيئاً صار ملقناً للموتى قبل دفنهم، لكنه الآن يحفظ عن ظهر قلب تاريخ المقبرة، ظل ينشدني شعراً في الموت، حتى اعتقدت بأنه قرأ وحفظ أشعار شواهد المقبرة كلها .

  عند قبة طينية مجصصَّة، بيضاء، مخروطية، من أعمال العصر السلجوقي، بحسب المتخصصين بالعمارة أوقفني قال هذا ضريح الحسن البصري، سيد التابعين، الزاهد والعابد وإلى جواره قبر الإمام محمد بن سيرين، مفسر الأحلام الشهير، وبلغة المتحدث الواثق قال: غالبية القبور درست، ولم يبق من قبور الصحابة والتابعين أثر. المقبرة مكان ظنيُّ في الغالب، لأن المسلمين لا يخلدون قبورهم، بحسب الشريعة، وما نشاهده في قبة الحسن البصري وابن سيرين هو من أعمال أحد الولاة العثمانيين وقبل نحو من 100 عام جددها أحد أشراف أسرة النقيب.

  أخذتني سورة من أفكار بعيدة، فرحت أتطلع في هيئة الحسن البصري، وهو جالس في مسجد البصرة الكبير، يتحدث في الزهد والورع واختلاف الناس على مجلسه، وهو يقول في حرب الإمام علي مع معاوية بصفين:” لم يزل أميرُ المؤمنين رحمه الله يساعده الظَّفر حتى حكّمَ، فلِم تحكِّمُ والحقُّ معك؟ ألا تمضي قدماً، لا أبالك، وأنت على الحق” ثم وهي يعظ عمر بن عبد العزيز، ثم تذكرتُ قولته التي دفع ثمنها نأياً وتعسفاً: (إنَّما خلونا ببعض أصحابنا نتذاكر..) الكلمة التي أتّهم فيها بالتدليس من قبل بعض متشددي أهل السنة. صاح بي أبو ماجد: وذاك قبر الوالي العثماني (علاء الدين ألآي بيك) وخلف الشجرة الكبيرة تلك قبور أسرة النقيب الأشراف، وهناك قبور ولاة الزبير والبصرة، من أسرة آل الزهير، وآل إبراهيم، وهناك ضريح الشاعر عبد الغفار الأخرس الموصلي وهناك… وقبل أن يكمل قلت له لحظة لنذهب من هنا.

  قلتَ” عبد الغفار الأخرس المولود في الموصل، والمتوفى في البصرة سنة 1873 والمدفون في مقبرة الحسن البصري  فقال: نعم، وإكراماً لذكراه جدد ضريحه مطرب المقام الأول البغدادي محمد القبانجي عام 1945والذي غنى من شعره قصيدة جميلة، وفي ركن من المقبرة هذه يوجد قبر وضريح الشيخ محمد النبهاني، الذي قدِم من البحرين، وأستقر فيها مع بعض من أبناء أسرته، وهو صاحب (التحفة النبهانية) وقد سميت إحدى المحال الصغيرة في الزبير باسمه (النبهانية) وهذا قبر متسلم البصرة سليمان فيضي، صاحب كتاب (البصرة العظمى) وهو من مواليد الموصل عام 1885 وتوفي في البصرة عام 1951وليس ببعيد عنه قبر دارس اليوم للقاضي احمد نور الدين الأنصاري صاحب كتاب (النصرة في أخبار البصرة) وهو موصلي أيضاً ،هكذا..

   وبناء على وصية الشيخ داود الفدّاغ فقد دفن رئيس ديوان التشريفات الملكي أيام حكومة الملك فيصل الأول، الحاكم بأمره (تحسين قدري عبد القادر)(سوري) في مقبرة آل فداغ بالحسن البصري، وعلى غير ما يحب كان الموت قد عاجلَ الشيخ الفداغ في بغداد فدفن هناك، لكن شاعر الزهيريات ، الشعبي أبو معيشي المولود في الناصرية دفن هنا مع قبور أسرة المنتفق، حيث كان مولى لهم هناك، وهكذا ترى المقبرة تضم بين طياتها من غير أبنائها الكثير، حتى قيل أنَّ الملا صدرا، صدر المتألهين، الشيرازي دفن هنا، لكن قبره درس كما درست من قبل قبور كثيرة ليس أقلها قبر البصرية رابعة العدوية .     

   ويقول أبو ماجد: ما نعرفه عن غالبية الراقدين في القبور هذه لا يتجاوز في أعظمه الـ 150 سنة، لأن تدوين المقبرة غير موجود في أدبيات المساجد، كما هو عند المسيحيين، فلا سجلات، ولا تواريخ، وهكذا درس الآلاف منها، وطوى التراب أزمنة كانت مدوية هنا ذات يوم، كيف لا والبصرة وعلى مدى تأريخها كانت متلقفة للأوبئة (الطواعين) قبل غيرها من مدن العراق، في الأزمنة تلك، بحكم موقعها على البحر.

   في عهد متسلمها سليمان فيضي المدفون هنا، والذي عمل سكرتيراً للسيد طالب النقيب (مرشح أهل البصرة لعرش العراق) آنذاك، كانت الزبير بليدة صغيرة، واقعة على طرف الصحراء، تسكنها كبريات الأسر النجدية العريقة، قد أرادت الاستقلال قبل نحو من 120عام، أيام إمارة آل إبراهيم، فأعلنت عصيانها على حكومة بغداد، طمعاً في قيام إمارة على غرار إمارات الخليج العربي(الكويت ،البحرين،قطر..) لكن ذلك لم يرق للإنجليز، فضربوا سور المدينة بالمدافع، وأحدثوا ثلمة فيه، ثم دخلوها، فسقطت، وفرَّ شيوخها، وتفرقوا في البلدان، ثم أن الانجليز وللتقليل من شأنها سموها (ناحية) تابعة للواء البصرة، وفرضوا سيطرتهم عليها .

  يثوي في مقبرة الحسن البصري أربعة من أكبر الشخصيات في حكومة عبد الرحمن النقيب، هم (عبد اللطيف باشا المنديل، وقاسم باشا الزهير، ومحمود باشا آل عبد الواحد، والسيد طالب النقيب، فضلا عن عبد الرحمن النقيب نفسه) وإذا كان عامة الناس من الفلاحين والعمال والكسبة وصغار التجار لا يشكلون وجه المقبرة الحقيقي لعلة في أمجادهم، فإن المقبرة تضم بين رقعتها التي لا تتجاوز الـ 20 دونما الكثير من الغرباء، فهي مهجع لمئات المجهولين من قتلى الكوارث والأوبئة والحروب في المدينة، التي لا يخلو عقد من تاريخها دون واقعة تميت المئات، ففيها المئات من مجهولي الهوية، من الذين طحنتهم الحرب العراقية –الإيرانية، في عقد الثمانينات من القرن الماضي، كما كانت مهبطاً لأجداث ضحايا الجنود الذين قتلوا في حرب الخليج الثانية، وفي طرف (ليس بأغر) منها يخلد المئات من الذين سقطوا ضحايا عام 1991 أما آخر من استقبلتهم فهو(أبو ماجد) حارسها ودليلها الى التراب، فقد كان أحد ضحايا العنف الطائفي عام 2006-2007 .

مواضيع ذات صلة

بعد سنوات من هدر المال العام.. الموانئ تنهي حقبة شركة “نافذ” بالقانون وقوة القضاء

مدير جهاز الأمن الوطني في البصرة يعزي بوفاة العميد سعد السلمي: كان ضابطاً مهنياً وإنساناً خلوقاً

“بطلة العراق الذهبية”.. العيداني يهدي نجلة عماد كورولا 2024

البصرة تستقبل الوفود الدبلوماسية.. انطلاقة جديدة نحو العالم

البصرة تستعيد تأريخها الملاحي في شط العرب

منتسبون عبر “مرفأ”: إجازاتنا مُغتصبة بكل مناسبة.. ولم نحصل على أي امتيازات